Thursday, 9 July 2009

مي شدياق تعود إلى درج الفن بعد طول انتظار لتوقع كتابها




إذا كان عندك مشكلة عدم الاستيقاظ باكراً، جرّب مشاهدة برنامج "نهاركم سعيد". نصيحة جربتها منذ أكثر من خمسة عشرة عاماً ونجحت. 

هذا ما دأبت عليه في الأيام التي تلت، الشهور، وحتى السنوات. أحببت البرنامج وأصبحت من متابعيه الدائمين. الدافع الأقوى كان انتظار كل ثلاثة أيام الحلقة التي ستقدمها الإعلامية مي شدياق. في تلك الفترة أحببت متابعة السياسة من خلال أوراق مي، وأحببت الرفض للواقع الذي كان سائداً يومها في الوطن من خلال أسئلتها المشاكسة ووجهها الملائكي.


أن تشاهد مي عبر أثير التلفزيون، أن تجلس لساعات مشاركاً ولو افتراضياً في برنامجها بـ "كل جرأة"، أن تشكر السماء على انتظارها عودة مي، كلها اعتراف بدور الإعلامية كرمز لقضية وطن.

نهار السبت الواقع في 27 من حزيران 2009، أن تقف على بعد مصافحة يد من مي التي كانت توقع كتابها "ستنتظرني السماء"، أن تسمع ضحكتها، أن تبحث معها عن قلم، أن تراقب أصابعها تخط إهداء على صفحته الداخلية، أن تبحث عن فسحة تحشر بها جسدك بين باقة من معجبين، أن ترى خجلها، ممانعتها، ورفضها استلام مالا بدلاً عن تجربة في كتاب، اعتراف بدورها كإنسانة مرحة، كمقاومة "ترفض أن تكون ضحية، ترفض أن تعتبر من كانوا وراء محاولة اغتيالها قد نجحوا، فهي لا تزال هنا"، ويبقى الأهم الاعتراف بدورها كامرأة مميّزة. 

أن تسأل مي الإعلامية، الرمز، الكاتبة، إذا كنت تستطيع التقاط صورة معها قد يكون حلم عند البعض، وقد يكون متوقعاً أن تقبل هي الطلب مبتسمة، ولكن أن تترك كرسيها وتقف بجانبك هو أكثر من حلم، هو قمة الذوق، الاحترام، والرقي من إنسانة مرهفة الإحساس.  

بينما كانت مي، وهي من الأعضاء المؤسسين لـ "جمعية إنماء الجميزة"، توقع كتابها “Le Ciel M’attendra” الصادر باللغة الفرنسية عن دار “Florent Massot” طبعة سنة 2007، على درج مار نقولا في الجميزة ضمن "مهرجانات بيروت السياحية" الثالثة، سرقنا "بتهذيب" بضع دقائق من وقتها لنسألها : "لماذا هنا على درج الفن، وبعد مضي أكثر من سنتين على صدور كتابك؟". 

مي، ومن دون أن تغفل الابتسامة المشهورة بها، أجابتنا:

"منطقة الجميزة تعني لي الكثير، لقد ترعرعت هنا وأمضيت سنوات بين شارع غورو وحي السراسقة حيث تقطن خالتي، هذا الدرج يعرف طفولتي أكثر مني، كل درجة منه شاهدة على ملامح طفولة لم أنسها يوماً. الدرج لم يعد يعرفني بسبب الإصابة لكنه ما زال يحمل ذكرياتي، أزوره من علوّ أو من جهة الأسفل حيث ألتقي الأصدقاء. 

أمور كثيرة تغيرت بعد إصابتي لكنني ما زلت "بنت الحي" وأحمل رائحة هذه المنطقة.

عندما أصدرت كتابي لم أكن بحالة صحية جيدة لأقوم بحفل توقيع هنا، منعت من التنقل بسبب العلاج والتمارين، يومها شاركت في احتفالات درج الفن بإرسال شريط مصوّر. 

هذا العام يصادف عام الكتاب بالنسبة إلى بيروت قررت المشاركة في نشاطات مهرجانات بيروت السياحية لأؤكد لهم أنني هنا ما زلت موجودة".
فالكلمة لا يمكن لأحد أن يغتالها ، ولا بدّ  للسماء أن تنتظر...

أن تحمل كتاب مي وبين دفتيه 250 صفحة، أن تحمل بين أصابعك جزءاً من مي وأحرف تنبض بألمها، أن تقرأ قصة وجع مجبول بالأمل، لـ"أول امرأة تتعرض لمحاولة اغتيال وبكل وحشية" في لبنان، جرحٌ في خاصرة الوطن وسؤال من دم على جبين العدالة.   

تقلب أول صفحة لتبدأ رحلة القراءة، أنه النهم لمعرفة شعور امرأة "شاركت رغماً عنها في موتها".

البداية تأكيد حازم على انتصار مي على الموت والعودة من جديد لتقدّم برنامجها "بكل جرأة"، فيحبس الأستوديو أنفاسه ومعه آلاف المشاهدين، تستهل أولى كلماتها بـ"اشتقت إليكم".

بعكس كتب المذكرات التي تطالعك تصاعدياً بأحداث الكاتب بدءاً بطفولته وجذور عائلته وصولاً إلى الحاضر، مي اختارت أن تبدأ الكتابة في اليوم الذي ولدت فيه مرة ثانية.

تتسارع القراءة، ونبضات قلب يحاول اللحاق بالأحداث، تحملنا مي من النقل المباشر لحلقتها الأولى إلى صباح يوم محاولة اغتيالها. تعود بنا مجدداً إلى الأستوديو، ومن ثم إلى مجريات نهار أحد كان من المفترض إن يكون عادياً، الانفجار، المستشفى الأول، فالثاني، الأهل وتوافد المحبين... تذكرنا بعد كل ذكرى بأنها هنا في أدما ستنتصر على مدة بث البرنامج وعلى الساعات الثلاثة.  

أن تلتهم السطور بين الصفحات وتعود بك الذاكرة إلى 25 أيلول 2006 وما شاهدت على شاشات التلفزة، الصلوات المتكسرة، الدعاء المتقطع، الغضب القديم العائد، الجرح الذي لم يلتئم... تقرأ برهبة وتتمنى أن تتغير النهاية.

يوم الاغتيال وقبل ساعات من الموعد مع الموت، صلّت مي في حضرة القديس شربل، لحظتاك، أرادوها أن تكون صلاتها الأخيرة، هي لم تكن تدرك بأنها ستكون "المرة الأخيرة التي ستصلي فيها ساجدة".

الكتاب رحلة بين انتصار الأمل وذكريات العذاب ومخاض الولادة الجديدة. سرد تاريخي لأحداث عصفت بلبنان بدءاً باغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في الـ 2005 إلى التجديد للرئيس السابق أميل لحود في الـ 2004 وعودة بالزمن إلى الوراء. رحلة في حياة مي، الطفولة، العائلة، السكن في "بناية الأرامل"، المدرسة، الراديو الزواج والتلفزيون... وحياة مرهونة لمخاطر حرب لا تعرف الرحمة.

مي التي كانت تطل على مشاهديها عبر أثير التلفزيون، شاهدت انقلاب الأدوار، فجاءوا هم وتحولت هي إلى مشاهدة لهم عبر تلفزيون وضع في غرفتها في المستشفى.
قد تسمع صراخ مي يصدح من بين السطور، دعاءها وصلواتها، نداءها أن ينقذوا يدها، خوفها من الاحتراق، وصور سمير قصير الأخيرة التي كانت تلاحقها. وقد تسمع سؤالها لوالدتها مرات ومرات "لماذا أنا؟". 

قد تغلق الكتاب مرات لتتنفس، تشعر بالاختناق ربما. وتماماً كما كانت مي في تلك اللحظة تبحث عن هواء خارج نافذة السيارة لا يكون له لون وطعم أحمر. ولكنك ستعود إلى حيث تركت أصبعك بين الصفحات، لتقرأ وتعرف جواب سؤال مي "لماذا أنا".

قد يجتاح صدرك أكثر من شعور وقد تتداخل وتتمازج في خليط غريب ومرّ، وحده شعور الإشفاق سيكون منفيا من بينها. فهي انتصرت على من أراد إسكاتها، هي اليوم عادت وتكلمت...

اليوم، وإن كانت مي قد اختارت مؤخراً التغيب عن شاشة التلفزيون، لا بد من كلمة أخيرة لإعلامية أطلق عليها محبيها لقب الفراشة: "نحن ننتظر عودتك واشتقنا إليك".

باسكال عسّاف ، الخميس 9 تموز 2009



No comments:

Post a Comment

Share

Widgets