الداخل "غابة".. والأغراض المعروضة للبيع فاكهة شهية متاحة للجميع، لانتهاز الفرصة بسعر أقل من زهيد أحياناً. لا بد أن تكون ماكراً كالثعلب، أو قدرك أن تكون "خروفاً"، وهو لقب يطلق على الأشخاص الذين لا يساومون على الأسعار، فتشتري بسعر عادي، لكن يبقى أقل من الثمن المعروض في المحلات التجارية خارج أسوار السوق.
كل ما تستطيع أن تتخيّله تجد من يعرضه للبيع، السعر مفتاح الصفقة. الباعة نوعان بل أنواع، كالمعروضات، لكل سياسته وفلسفته المختلفة في البيع.
النوع الأول متمرّس في قراءة تعابير الوجه، وغالباً ما يبيع خردة أو أشياء مستعملة، منها ما قد يكون تحفة لا تفوّت في ناظر ذوّاق فن. هذه الأشياء لا سعر محدّداً لها. يترقّب كالنسر وينقضّ على الزبون عند ثاني أو ثالث خطوة ابتعاد عن حدود مملكته الصغيرة. الزبون فرصة لا تأتي مراراً، البيع فيه شطارة، والخوف أن يجد الشاري مبتغاه في الزوايا القريبة عند جاره - الغريم. يجلس البائع القرفصاء، أو على كرسي عتيق في الزاوية. صنم لا تعنيه الحركة من حوله، تتمعّن عيناه في وجوه القادمين. يتوقف أحدهم أمام الطاولة أو البسطة، يقلّد اللامبالي، في سرّه يظن أنه خدع البائع، لكن القابع وراء الأغراض يبتسم بمكر.
من أناملهم يعرفهم البائع، من لباسهم الأنيق، من تسريحة شعرهم، من الساعة في معصمهم، من أظافر أيديهم ومن لمعان الحذاء. قبل أن ينتهي الزبون من تفحّص أول قطعة يقوم خيال البائع بتحضير ملف عن الشخص، اهتماماته وحالته المادية. السعر أكثر بقليل مما قد يدفعه الشاري بدلاً للقطعة، والمساومة مفتوحة على مصراعيها. قد يخاف الزبون، قد يتركه البائع ولا يناديه، يعرف أن أمثاله يعودون دائماً صاغرين. مرات يسارع إلى انتشاله من هوة الرحيل صارخاً بصوت جهوري: "ما تزعل، ما فيا شي ها الدني" ويلقي سعراً جديداً على مسمعه. في نهاية النهار يضحك الاثنان، يفاخر كل واحد منهما بذكائه، ويضحك على غباء الآخر.
النوع الثاني غالباً ما يفرش طاولته بالقطع الحديدية، أسعاره لا تحتمل التفكير ملياً، الباهظ منها لا يتعدّى بضعة آلاف من الليرات اللبنانية. يعلّق على حبال الغسيل بضاعته، تعجّ مساحته بعشرات الملصقات عن الحسومات والأسعار. من الصعب ألا تجد أيضاً بوقاً أو مسجلّة تردد إلى ما لا نهاية: "أي قطعة بألف" أو بسعر ما. ترداد لا يتعب ورغم ذلك يساعد البائع الضجة مردداً العبارة نفسها بطبقة صوت أعلى. كمن يركض داخل فنجان، يضحك البائع، يحيي العابرين، يرد الفكّة، يبحث عن كيس، ينظر في كل الاتجاهات ويعيد ترتيب ما خرّبه زبون مضى.
الباعة من الجنسين، ومن مختلف الأعمار. منهم لبنانيون وآخرون من سوريا، مصر، وعدد من بلدان أفريقيا. أما الزوار فمن كل الطبقات الاجتماعية، وإن كانت الفقيرة والمتوسطة تطغى على الأغلبية. نظرة سريعة إلى السيارات المركونة تكفي لتفاجئ بأنواع وموديلات تشبه تلك الموجودة على الطرقات المؤدية إلى مقاهي وسط بيروت. الزوار من كل الأعراق، الألوان، والقارات. عربي، أفريقي، هندي، سريلنكي، أثيوبي، وروسي...
معظم الإلكترونيات من صنع الصين، أما الألبسة والأقمشة فمن صنع كل البلدان القريبة منها والبعيدة ، متوفرة بأبخس الأثمان، بعضها مقلّد يحمل أسماء ماركات عالمية. الحذاء بخمسة آلاف ليرة للكبار وللصغار، صبياناً كانوا أم بنات، رجالاً أم نساء. لا حدود للسعر ورغم ذلك يبقى أرخص من تلك المصفوفة في المحلات ذات الواجهات الزجاجية. جديدة ومستعملة، بعضها يحمله الزبون في كيس من النايلون وقلة منها في علبة كرتون مطبوع عليها صورة أو ماركة "من قريبو". هنا جبل من الأحذية والشطارة تكمن في التفتيش عن فردة الحذاء الأخرى، في الطرف المقابل رجل يحاول إقناع قدمه أن الحذاء مناسب واللون مقبول حتماً وسيجد في الخزانة ما يناسبه من ثياب.
ركن خصص لبيع فساتين الأعراس، زاوية بيضاء لأحلام قد تتحقق بثمن زهيد، لا غرفة قياس أو مرآة، فالعروس عليها أن تختار فستان يوم الحلم ... تقديرياً.
هواة الطوابع والعملات مدعوّون إلى عالمهم النادر والقيّم، معظم أصحاب هذه البضاعة عجائز يفتخرون بمجموعتهم ولا يقبلون تخفيض التسعيرة، كالنبيذ يعتقونه. بعض هذه المساحات خصص لنقود وعملات قديمة، من حديد أو من ورق، طوابع بريدية وأميرية، وتاريخ محفوظ بورقة لا تتعدى السنتيمترات.
رغم أن الأسطوانات المدمجة المنسوخة (CDs)والتي يعتبر بيعها منافياً للقانون، يزخر السوق بمئات الآلاف منها، بنوعيها الموسيقي والمعلوماتي. الأسعار تتشابه بين المنصات، والعروضات تشجيع لشراء عدد أكبر. يطمئنك البائع مبتسماً :"البدل مسموح في حال وجود مشكلة" .
اللافت، أن البيع في هذا السوق بالعملة اللبنانية، لا دولار دخيل ولا سعر صرافة، فقط هنا استطاعت الدولة أن تطبق قانون استعمال العملة الوطنية.
المنصات المخصصة لبيع الكتب، داخلها أشبه بالدهليز، ممر قدم وأقل للمرور، الكتب مصفوفة فوق بعضها كالتلال وبكل اللغات، ومنها حتى ما ندر استعماله. امتصاص للفضول، واستنزاف للوقت بحثاً عن كتاب مثير، فالمعادلة بسيطة: التعب مقابل السعر. من الكتب ما علّق على حبال الغسيل، ومنها ما بقي محتجزاً في صناديق من كرتون في الخلفية ليترك في داخلك فضولاً يدفعك أخيراً للسؤال عن المحتويات، فيجيبك بأنها ليست للبيع. مستعملة، ممزقة، أو حتى متسخة لكن يبقى الأمل أن تجد كتاباً نادر الوجود، فهنا لمن يحب الكتاب موقع جزيرة الكنز.
أحد الباعة، يتمدد على طاولة في ثياب رثة، يقرأ في كتاب بلغة أجنبية، إذا اقتربت من ركنه يقفز من مكانه، يلقي التحية ويفتتح حلقة نقاش تطول، يخبرك عن الكاتب، وعن مضمون الكتاب. وعندما تشتري - ليسكت ربما -، ينكبّ على تهنئتك بذوقك في القراءة.. وكم ندر أمثالك في هذا الزمن.
في الخارج، تحت الجسر أو في المكان المخصص لموقف السيارات، منصّات عشوائية، منها ما قد تقف أمامه ليتآكلك الفضول وأنت تنقّب بنظراتك بين الخردة المعروضة... ولا تعرف ماذا يبيع في هذه البسطة. أشياء ملقية بخمول على شبه حصيرة لا تعرف لها أسماء.
هنا، رائحة تلسعك بحدتها، حديقة للحيوانات من فصائل متنوعة، أحواض أسماك من كل الألوان والأحجام، أقفاص حشرت فيها كلاب، قطط، دجاج، حمام وأرانب... هناك، رجل يرشّ الماء فوق أسماك ممدّدة، بالقرب منه حوض زجاجي تحاول عبثاً الثعابين في داخله الحركة، أمامه والد ينهر ابنه "تريدني أن أشتري لك ثعباناً؟" وولد ينتفض جسمه الصغير إصراراً. استكمالا للمشهد بائعو الأزهار افترشوا بقعة وحوّلوها إلى بستان من الأشجار الصغيرة، الورود، والأدوية الزراعية.
إضافة إلى المعروضات، هناك أشخاص يزاولون مهناً قد تستغرب وجودها إلى جانب السوق، راسم أوشام فوري حمل دفاتره وصوره ونثرها مفتوحة أمام أبصار المارة. خياط يجلس وراء ماكينته منهمكاً بتقصير بنطال اشتراه زبون منذ برهة. فسحة ضيقة تتسع لكرسي وطاولة لتصليح الساعات، استبدال سوار بآخر، تغيير بطارية، وساعات معروضة أقل من أصابع اليدين.
في السوق يمكنك أن تجد رجلاً مسناً يستعطي، بين الجموع يمشي مثقلاً بتجاعيده وبيد ممدودة تصطحبها دعوةٌ إلى الله، يطلب صدقة. هو أشبه بانعكاس خيال في ليلة حالكة، هم عيون تنظر الى الجهة الأخرى.
إنه سوق الأحد.. مجتمع قائم بحد ذاته، دورة حياتية يقف المشاهد عاجزاً أمام تركيبتها، كل هذا وأكثر في فسيفساء بشرية تمازج فيها البائع مع الشاري في لوحة لا تُقلد.. وقد مهرتها العبثية بتوقيعها.
http://www.nowlebanon.com/arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=107172#
No comments:
Post a Comment