Wednesday, 30 December 2009

قراءة لمعرض بيروت العربي والدولي للكتاب بعد انفضاضه



ما إن تطأ قدمك ردهة الاستقبال في معرض الكتاب الدولي، حتى تشعر برهبة تشبه إلى حد كبير ذكرى الموعد الأول. الوقفة نفسها، يومذاك فكّرت ماذا ترتدي فتاتك وهل تضع العطر الذي أهديتها إياه منذ يومين. الانتظار نفسه، والخوف من المفاجأة تشابه غريب. ماذا يحمل المعرض هذه السنة إلى القراء (الزبائن)، هذا السيل المخيف من البشر الذي سيعبر الأروقة كبحر يتفتت أمواجاً على المنصات المختلفة؟ 
تقلب الصفحات. تحمل الكتب مثلما تعانق الأطفال. تقرأ أسماء الأدباء الكبار من بلادك، من المشرق العربي، والأخرى الأجنبية، تتأملها مرتديةً العباءة العربية. تلقي عدداً من الكتب على ذراعك، تجمعها، تكّدسها ولا تكتفي. تصادق الطمع اللذيذ، لا تشبع من تلمّس الأوراق ومن رائحتها، الحديثة الطبع منها وتلك القديمة، مع ما حملت من بصمات الذين سبقوك.



إهداء
أولئك الذين نسوا لماذا يقام المعرض كل عام، يتعاملون مع القرّاء كأنهم حقائب بشرية تحمل مالاً يترقبونه أن يرتحل إلى خزائنهم. تركوا ابتساماتهم في بيوتهم ومكاتبهم، وأتوا متمنطقين بآلاتهم الحاسبة ودفاتر يخطّون عليها أسماء الكتب كبضائع استهلاكية لا قيمة لها. يخالون منصتهم، أو دار النشر التي يملكونها، مملكة شاهقة، مسيّجة بأسوار من التكبّر، والقرّاء مجرّد زوّار يرجون ضيافة موقتة
إلى كل هؤلاء الذي يراقبون، بطريقة مريبة وشكّاكة، الأشخاص الواقفين أمام أكداس الكتب وكأنهم لصوص محتملون، إلى كل من لا يتكبّد مشقة رفع رأسه عن دفتر الحساب ليتعرّف إلى "الزبون" ويشكره، وإلى كل من نسي أن القرّاء يملكون ظمأ قديماً لامتلاك كل الكتب المرصوفة في هذا المعرض، وكل المعارض الأخرى التي تقام على مدار السنة في لبنان، وحتى كل المكتبات... فليتذكّروا أن القرّاء ينتظرون الموعد من سنة إلى سنة، يحصون الأيام، ومنهم من يقتطع جزءاً من راتبه الشهري، يدخره بعيداً من الإغراءات والضروريات اليومية، فقط من أجل "عيون" معرض بيروت العربي الدولي للكتاب.
الموعد ومواقف السيارات
في موعد يتجدد كل عام، يطل المعرض في موسم الأعياد والطقس الماطر مستبقاً عيدَي الميلاد ورأس السنة، ويأتي مرّات خلال شهر رمضان، فيلتقي اللبنانيون في شهر يفقدون فيه صوابهم، "يجنّون"، ويسيلون كالأنهار على الطرق. رواد المعرض، لهم نصيبهم من الزحمة المعتادة، يضيفون إليها، بكل طيبة خاطر، زحمة أخرى في الفسحة العملاقة أمام أبواب المعرض. يتوهون بين المواقف، وأين يركنون السيارة، قلّة يسعدها الحظ، فتجد "مرقد" سيارة في الموقف المجاني الوحيد بين خمسة مواقف. دوران لا ينتهي، وصراع على موقف خلا في لحظة. الحسابات في باحة الموقف تختلف عن خارجه. من يؤم المعرض عشر مرّات يعتبر أن عشرين ألف ليرة ستشتري له كتابين وأكثر. هو نفسه يصرف المبلغ نفسه على فنجاني قهوة في مقهى ما خارج مدار المعرض.
من الزوار من يبادل الوقت الضائع الذي يصرفه بالبحث عن موقف ببدل مادي فيدفع تعرفة موقف ويهرول إلى المعرض، ويبقى الحل الموجع الأخير الذي يعمد البعض الى اختياره عبر الدفع إلى Valet Parking تعرفة تقارب الخمس دولارات.
الصوت المنبعث من فوق
هو المعرض بدورته الثالثة والخمسين، والأقدم في محيطه العربي، هذه السنة له نكهة خاصة لمناسبة إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب، هذه العاصمة التي افتتحت عام 1956 المعرض العربي الأول للكتاب وتبعتها القاهرة بعد عشر سنين ثم تتالت مختلف الدول العربية. 222 دار نشر منها 176 دار نشر لبنانية والباقي دور نشر عربية من مصر، الأردن ، سوريا، تونس، والبحرين، كما تشارك أربع دول عربية رسمياً، هي: المملكة العربية السعوديّة، الإمارات العربية المتحدة، سلطنة عمان والكويت، إضافة إلى 22 مؤسسة ثقافية أجنبية أو ذات طابع دولي
المتحدثة على المذياع ترحّب بك وتخبرك عن جدول المواعيد ثم تطالعك بأخبار عن دور نشر تدعو "الزوار الكرام" إلى زيارة جناح ما لحضور توقيع كتاب آخر. في زحمة هذا كله، لا بد من أن تتذكّر المحال التجارية وإعلاناتها عبر مكبّر الصوت بأنك إذا اشتريت "كذا" فستحصل تلقائياً على نصف "كذا" مجاناً. تتساءل لماذا لم تسمع بحسوم خارقة أو حتى بسيطة في جناح ما، أو بدار نشر توزّع مجاناً كتباً قديمة بالت في مخازن الانتظار؟

ردهة الاستقبال
في ردهة الاستقبال، فتاة تجلس خلف شاشة كومبيوتر، تستطيع أن تسألها عن اسم كتاب، ستعاني عندما تطبع الأسم، وتدور "بالفأرة" جولات عبثية على الشاشة، مرتبكة أمام صعوبة استخدام البرنامج. تطلعك أن قلّة من دور النشر قدّمت لائحة بعناوين كتبها، ستعتذر هي وتهدي اليك ابتسامة خجولة، أما أنت فتنصرف حاملاً خريطة المعرض للبحث عن جزيرة الكنز الضائع.
على طاولة الاستقبال كتيبات صغيرة توزّع مجاناً، طريقة تكديسها تبثّ الطمع في عروق اليدين فتدخل وتخرج مرات عدة لتلتقط أكثر من كتيّب وفي داخلك يعتمر شعور عظيم بالنشوة. عندما تبتعد قليلاً، ستبتسم بسخرية لاذعة إلى حد الهذيان، وتبحث في الأرجاء عن كاميرا خفية، فالكتيبات التي انتشلتها كاللص لا تعدو أكثر من روزنامة السنة الحالية، وقد تبقّى من العام أقلّ من شهر واحد، ومن الكتيّب صفحة واحدة للإستعمال.
الداخل
المعرض متاهة لا يقدر عقل بشري أن يسبر غورها بيسر، على رغم أن القائمين على المعرض، مشكورين، يقدّمون عند الباب (إذا سألت) كتيباً مرفقاً بخريطة لهيكل المعرض يبقى عصياً على البعض كل عام. يضيع اسم المكان الذي تريد أن تقصده بين اسم من دون مقدمات وآخر يحمل كلمة دار أو مكتبة. تغوص في داخل اللغز، تتوه، وتبحث عن فرص.
مساحة المعرض كبيرة، وهذه السنة أضيف إليها جزء آخر كان له وقع المفاجأة: مساحة 7000 متر مربع، أي بزيادة ألفي متر مربع عن العام الماضي. وقد استحدثت خيمة تتسع لحوالى 30 دار نشر لا تعرف بوجودها إلا عند البحث عن طريق الخروج. تشعر بها من رائحة الدخان والإضاءة الخفيفة ثم البرد الذي يقرص جسدك عند العبور إليها
في المرة الأولى تمرّ فيها أمام المنصات المضافة والملحقة على عجل، تجرّ خلفك أكياساً متخمة، تسمع صوت الخشب تحت قدميك لينذرك بخطب ما كأن هناك من يراقبك. تسير أمام الباعة وفي داخلك خجل مخيف، وصلتَ إليهم بعدما صرفت كل ما حملته من زاد لهذا اليوم.
نماذج عن المنصّات
تدخل دار نشر مرموقة، تبعثر محتويات الرف، تحاول أن تعيد كل كتاب إلى موضعه، من الكتب ما يسقط على غفلة من انتباهك، تخجل من الأنظار المحدقة، تلتقطه مقلّداً وجهك ابتسامة ركيكة وتعيده، قد تضيفه إلى الكتب المكدّسة على ذراعك وترضخ بأن تشتريه. هناك في الزاوية تكتشف كتباً مطبوعة في سبعينات القرن المنصرم، تفرح بالغنيمة، تتلفت حولك حذراً من عيون الآخرين، وتنهمك بقطف الكتب باقة من الأزهار. الأسعار بالليرة اللبنانية، عشر ليرات، خمس عشرة ليرة فقط. كتب نافدة ربما، ولن تطبعها الدار مجدداً. تفكر أن سعرها الجديد لا بد أن يكون زهيداً لأنها مرصوفة منذ عشرات السنين في انتظار شارٍ. تحملها، تعانق "دزينة" منها، وتتوجه عند المحاسب الذي يطالعك بأسعار خيالية بالعملة الأجنبية. تفاجأ أن الكتب التي اخترتها بأوراقها الصفراء، وخطوط أحرفها البشعة، وصور غلفها القديمة بات ثمنها اليوم يضاهي تلك المطبوعة حديثاً.
من دور النشر من لا يضع أسعاراً على الكتب. قد لا يبدو الأمر مزعجاً للوهلة الأولى، لأنك تستطيع أن تتناول الكتاب وتذهب عند البائع لتسأله عن السعر. قد يعطيك الجواب تلقائياً أو يغوص في بحت عبثي يطول بين سطور لوائح الأسعار. تكرر التجربة مرة واثنتين فثلاثاً، لكنك في نهاية المطاف ستخجل من إعادة السؤال مجدداً، وتفهم من الأمثلة وعينات الأسعار التي سمعتها عن ماهية التسعير وطريقته في هذه الدار.
هناك منصات خاوية من القراء. تجلس خلف المكتب فتاة (شاب أحياناً)، تتلهّى بالتمعن في العابرين وما تحمله أيديهم. أصنام أو جزء من ديكور لا حياة فيه. سؤال محيّر يطالعك في كل مرة صودف مرورك من أمام الجالسة. ألا يجدر بها أن تحمل كتاباً وتقرأ، أو أقلّه أن توحي إلى الزوار بأنها تقرأ فتقلب الصفحات كل بضع لحظات، وتبتسم في محاولة لدعوتهم إلى زيارة المعروضات وتصفحها في الداخل؟ 
المفارقة الغريبة عندما تمرّ في رواق من المنصات، وتلحظ زاوية واحدة مكتظة بالأصوات. تستطيع أن ترى شرر الغيرة والحسد في عيون الآخرين من الباعة. عندما تدخل إلى منصة فارغة من الزوار، يخبرك البائع الحانق على جاره الذي يبيع كتباً بأسعار زهيدة، أنه لا يعرف كيف ولماذا، ويبدأ بتعداد تكلفة طبع الكتاب. تشعر بنوع من الشفقة، تسأله عن كتاب، يطلعك عابساً على السعر الذي لم يكتبه أصلاً بقلم رصاص على الصفحة الأولى من داخل الكتاب. تجفل من الرقم، تلوذ بالفرار، ليعود البائع إلى مزاولة مهنة التحديق الى نجاح الآخرين حيث فشل هو في تقليدهم منذ لحظات.
علاقة البائع بالقارئ
معظم الزوار، وربما كلهم، يسألون عند الصندوق عن حسم، قد لا يتعدى في كثير من الأحيان الألف ليرة أو الألفين، يعرفون في دواخلهم أن الحسم المقدّم من الدار يبقى أقل من ثمن فنجان قهوة في المقهى المزروع برفاهية في آخر المعرض. على رغم ذلك يسألون عن الحسم وينتظرون ابتسامة ترحيب. يروق للقراء أن يعتبروا أنفسهم أكثر من رقم عابر على الآلة الحسابية أو الكومبيوتر. ما لا يعرفه البائعون أنهم يعودون في كل مرّة للشراء من الدار التي التفتت صوبهم بحسم يسير، بضحكة بريئة، أو حتى بمجرّد كلمة حلوة.
الموسوعات حرب أسعار طاحنة، من دور النشر من "يخاف ربّه" فيعرضها بسعر مغر ومشجّع للشراء ضمن مهلة أيام المعرض، وهناك دور نشر أخرى، تستغل جهلك بسعر البيع العام، تتعكّز على صداقتك لها، فتعمد إلى إلقاء كلمات زائفة عن ثقافتك وحسن اختيارك، لتبيعك بأسعار مضاعفة مرة ومرتين. بعد أن تشتري منها، سيلاعبك القدر فتجد الموسوعة نفسها ممدّدة ببلاهة على رف وبسعر أرخص بكثير. تعود إلى الدار محتاراً، تخبر الرجل عن الواقعة
بإجابة نحيلة يخبرك بأن الدار الأخرى تملك مجموعة كبيرة تريد أن تتخلص منها مهما يكن الثمن. لا يعرف البائع، قبل أن ينهي عبارته التبريرية الهزيلة، أنه قد خسر "زبونه" إلى الأبد، وأن هذا "الزبون" سيخبر أصحابه كلهم، القريبين والبعيدين منهم، أن هذه الدار أخطأت في حقه، وهو لن يدخلها مجدداً إلا لتذكير البائع بهفوته العميقة الأثر، وفقط من أجل محاولة تعكير ضميره. هذا إن وُجد أثر له أصلاً.
ما لا يعرفه مالكو دور النشر، أن القرّاء يصلون إلى المعرض كسائحين إلى بلد جديد، يحملون في جيوبهم مبلغاً معروفاً، مقتطعاً من حساب آخر، ليشتروا به من المعرض. وأن دار النشر "الضحوكة" التي تعامل "الزبون" كأنه صديق هي من يصرف عندها المتجوّل معظم ما يملك.
الأسعار
أسعار الكتب متفاوتة، لا تشابه ولا أرقام متقاربة. من دور النشر من تبيع الكتاب بحسب قدمه، وكلما زاد قدمه علت قيمته، حتى لو كان مهلهلاً كهلاً يكاد يتفتّت بين الأصابع. وإذا كان يحمل إهداء إلى تعيس جارت عليه الدنيا وباع مكتبته بسعر بخس من تاجر ما، فسيعمد هذا الأخير إلى إضافة قصة حزينة عن تاريخ رحلة الكتاب ضمن محاولات الترغيب بالشراء. من الباعة من يسعّر الكتاب بحسب حجمه وعديد صفحاته، وبحسب شهرة كاتبه وخصوصاً إذا كان هو من يملك حقوق الطبع وإعادة النشر. في المعرض أيضاً من يساوي الدولار بألف ليرة لبنانية، فيترك على غلف الكتب أسعارها القديمة بالدولار، لتتحول الخمسة دولارات إلى خمسة آلاف ليرة بطريقة سحرية تبعد أحاديث المساومة الطويلة.
محزنون هم هؤلاء الأشخاص المخولون محاسبة الزبائن. يسجلّون على الدفتر أسماء الكتب وأسعارها، وينتظرون الألف ليرة بعد أن يكون الشاري قد دفع أكثر من خمسين ألفاً. هم أنفسهم، يتخبطون عندما يكونون مدينين إلى الزبون بألف ليرة فيركضون إلى المنصات المجاورة طالبين فكّة، وكم من المرات تسمع زبائن يقولون مبتسمين إن البقية "لا تحرز". المزعج أكثر، أولئك الموجودون من أجل تلبية رغبة واحدة مهمة ألا وهي قبض الأموال. عندما تزعجهم بسؤال عن موضوع ما وأو عنوان عريض لبحث أكاديمي، تتوه أنظارهم بين الرفوف وبعد طول انتظار يجيبون: ابحث هناك ربما تجد مبتغاك. كلمة "هناك"، ترمز إلى جهات المنصة جميعها.
تختلف طباع أصحاب دور النشر والمكتبات في بدايات أيام المعرض عن أيام نهاياته. كلما اقترب موعد انتهاء مدة المعرض، يتذكرون البسمة، ويقبلون بحسم على مضض، يعيدون حساباتهم، وأرقام الخسارة والربح، و"يسايرون الزبائن". 
درس سينسونه في المعرض المقبل. يصل القارئ إلى منصة، يتأمل مجموعة، يسأل عن سعر العدد، يفكّر ويطرح سؤالاً جديداً: ماذا لو أريد شراء المجموعة كاملة، هل من حسم؟ يتقمص البائع الصنم، محركاً شفتيه ليخبرك عن استحالة تغيير السعر الأولي. هو نفسه، يتحوّل كتلة متأججة من النار عندما يرى "الزبون" ململماً خيبته ويستعد للانصراف، فيلاحقه بسيل من الحسوم. هو نفسه أيضاً، يقبل بحسوم أكبر في اليوم الأخير للمعرض، لأن البيع من دون ربح وفير أفضل من إعادة تعليب الكتب في صناديق، وسوقها مهزومة إلى المستودعات.
الغنيمة 
الفرحة الكبرى للقرّاء تبدأ من لحظة الخروج من معرض الكتاب، وتمتد في الطريق إلى الموقف، داخل السيارة، وأحياناً في مقهى يلتقون فيه لشرب القهوة والتحادث. كلٌّ يعرض أسماء الكتب التي اشتراها، ينطق باسم الكاتب كأنه من أصدقائه القدماء. كلٌّ يعلن حنكته وشطارته في اصطياد الكتب التي لم يلحظها الآخرون. بعضهم يشعر بالغيرة، يسأل عن اسم الدار وعن إمكان وجود مطبوعات مماثلة، وبعض يرتحل في عقله إلى المنزل فيتخيل نفسه واقفاً أمام المكتبة يبحث في الزوايا عن مكان يليق بالكتب الجديدة.
هل تريد أن تنشر كتاباً؟
أحد مالكي دور النشر المعروفة بأسماء كتاب كبار ومرموقين في الوسط الأدبي، يستقبلك بابتسامة مرحبة، ويستبقيك الى فنجان قهوة مرفقاً بسيجارة. تجلس مغتبطاً بحسن ضيافته، وفي لحظة تسأله عن اختلاط لائحة كتّابه بأسماء مشهورين وآخرين مغمورين، وعن معايير النشر. يجيب ضاحكاً أنه لا يعرف
وأمام ذهولك، يكمل بلهجة رقيقة، في هذه الدار للجميع فرصة، أُخبر الكتّاب الجدد: أرسلوا إليَّ أشعاركم وكتاباتكم لأقرأها وإذا كانت مقبولة أنشرها بشرط واحد. أقيموا حفل توقيع، وادعوا معارفكم، أصدقاءكم، وأقاربكم، وإذا استطعتم تأمين بيع ما يعادل تكلفة الطباعة والنشر، فأتركوا لي القليل أبيعه في داري واحتفظوا بالمتبقي من الخمسمئة المطبوعة، وزّعوها كيفما اتفق".
المؤتمرات، دور النشر، وقلّة القراء
المؤتمرات التي أقيمت على هامش معرض الكتاب كانت رائعة بمواضيعها، زاخرة بأسماء لامعة لأدباء وشعراء وصحافيين محبّبين إلى القلوب في إطار ملتقى خاص استمر ثلاثة أيام، تخللته لقاءات وحوارات في ندوات منظمة حول دور الرواية العربية في حركة الأدب والثقافة والإبداع العربية المعاصرة. لكن، ويا للأسف الشديد، كانت الصالات خاوية كمعدة غول كبير مسجون في كهف لا مخرج منه. المشكلة تكمن ربما في الدعاية أو الزوار والقرّاء الحاضرين المعدودين على الأصابع الذين في بعض الأحيان كانوا أقل عدداً من الأعضاء المشاركين في الندوة. الحضور الفقير أشعر المشاركين في الندوة بقلة احترام، فتفشّت اللعنة فيهم، لم يحضر عدد لا بأس منه للمشاركة في الأيام اللاحقة بعدما سمع بخبر اضمحلال الحضور كالسكّر في فنجان قهوة لن يُشرب.
تعاني دور النشر، بعضها وربما معظمها مشكلة تدنّي نسبة القرّاء وبالتالي حصة البيع سنة تلو السنة. يصفون المعرض ببيع الأجنحة أكثر منه لبيع الكتاب بسبب المساحات الكبيرة التي خصّت بها إدارة المعرض بعض الأجنحة الشقيقة الرسميّة حيث تزدهر فيها التواقيع والنشاطات ويحتشد الزوار. أصحاب هذه الدور يتنبأون بأن البلد إلى زوال ثقافياً، وقد تكون مخاوفهم صحيحة، وأرقام إحصاءاتهم مؤكّدة. لكن يبقى السؤال لماذا؟ ولماذا في كل البلدان التي نسافر إليها، نلتقي اشخاصاً (من جنسية غير عربية بمعظمها) يقرأون في المحطات، داخل القطار والطائرة، وحتى في المسابح؟ وأخيراً يشكو البعض أن "الإنترنت" سرقت منهم القراء، يعزون سبب تردّي مبيعاتهم إلى الكسل المتفشّي في المجتمع، وبأن الكتاب إلى زوال. ولكن كيف نسوا أن للكتاب رائحة وملمس أطيب من جسد الحبيب العاري؟
في السنة المقبلة
معرض بيروت العربي الدولي للكتاب هو جنة للقراء على الأرض، ولكن بعض المنصات فيه جحيم مصغّرة. في المعرض الأخير التقيت أصحاب دور نشر أو موظفين فيها، تحوّلوا أصدقاء، تبادلنا أرقام الهاتف، ودعوات لزيارة مكتباتهم قبل حلول الموعد الجديد للمعرض المقبل، وعهود باستمرار الحسوم. المسافات التي قطعتها في أروقة معرض الكتاب هذه السنة، وفي السنوات الماضية تفوق مساحة لبنان كله (ربما). في السنة المقبلة عندما أصل إلى ردهة الاستقبال، سأسأل عن الكتيّب، لأنني سأحتفظ في جيبي بأسماء دور النشر الصديقة، وسأعود اليها واحدة تلو الأخرى، فهي أولى وأحقّ من غيرها أن أصرف عندها كل ما جمعته لشراء الكتب.
رسالة أخيرة
إلى كل "الباعة" الذين يحملقون بالمارة وبأكياسهم المنتفخة، المستغربين لماذا لم يشتروا من عندهم، ولماذا دخلوا وخرجوا من منصاتهم كالنسيم، كتبت هذا المقال، والحزن نفسه الذي عرفوه أشعر به في أعماقي. لا تنسوا أننا نحن القراء "روح" هذا المعرض إن كنتم أنتم جسده. وأنكم وحدكم في مقدوركم أن تزهقوا هذه الروح، أو أن تحيوها
الأربعاء 30 كانون الأول 2009 - السنة 77 - العدد 23916
باسكال عسّاف     

2 comments:

  1. مقال رائع،
    استمتعت بقراءة كل فقرة :)

    يعطيك العافية

    ReplyDelete
  2. فعلاً موضوع جميل ومتابعة شيقة
    لقد كان لي عدة زيارات إلى المعرض هذه السنة
    لقد حرص الكاتب على ذكر أدق التفاصيل

    تحياتي

    ReplyDelete

Share

Widgets