Thursday 9 September 2010

أجمل ابتسامة ... الجزء الثالث: الرسائل

Gebran Kahlil Gebran Handwriting
لقراءة الأجزاء السابقة 1، 2

من بين كل الأوراق الصفراء المنتحرة، أراد أن يلتقط واحدة... واحدة فقط عندما شاهد سقوطها، لعن الخريف وتابعه الشتاء. انزلق العالم كله في فجوة سوداء، لم يعد يميز أي من الأصوات المقتربة، رغم أنه كان يشعر بها تصفعه... تحلّق الجمع حوله، الأرض تحته مسها جنون، تحوّلت إلى ثور هائج وهو إلى رقعة ملطخة بأحمر حائر... حملته الذاكرة كطير متدلّ من بين شدقي نسر وألقته عظاماً صغيرة مهشمة على ارض الماضي يوم كان شابًا... تحديدا إلى ذلك اليوم الدراسي عندما باع صديقه الأنيق رسالة رابعة... منذ عشرين عاماً.

يرى ذاته تمسح الدموع بكم قميصه الطويل، ويجلس على المقعد الشاغر تحت الشجرة، ينتظر ككل يوم، بفراغ الصبر، سماع الصفارة التي تعلن انتهاء الفرصة، ووجوب عودة التلامذة إلى صفوفهم. كمن يشاهد فيلماً صامتاً، لأنه لم يعد يذكر ماذا عنت كل تلك الأصوات الصاخبة... أو ربما لأن أحداً من التلامذة لم يبال بالتحدث معه، وبالتالي ذاكرته خاوية كأحلامه...

إلا أنه في ذلك اليوم، وعلى غير ما جرت العادة، انتصب كسارية ممزقة الشراع، وأسرع الخطى، مبتعداً قدر الإمكان عن الملعب وكل الحشرات المبعثرة في أرجائه.

يقبض في يده على ورقة ثانية، رسالة ثانية، غير التي سلّمها إلى للفتى الأنيق منذ بضع دقائق. عندما كان يهرول بجسمه الممتلئ ووجهه المنتفخ الغاضب، في الظروف المعتادة، لا بد أن يكون مدعاة سخرية من زملائه، إلا أنه في ذلك اليوم بدا شكله مريباً، مخيفاً، فلم يتجرأ أحد على اعتراض طريقه ... ينزف بغضاً من عينين واسعتين كمغاورٍ ملتهبة بالانتقام ..

"يحق لي أن يحب... يحق لي أن أحبها..."
بهذه الكلمات استمد قوة لم يعرفها من قبل، مشى بخطوات واثقة للمرة الأولى في الرواق المؤدي إلى غرفة دراسة لسنة دراسية لا ينتمي إليها. قبل أن يصل إلى الباب الخارجي، تمهّل أكثر، راوده شعور بالذعر، تشنّجت أصابعه، وسقطت الرسالة الثانية على الأرضية. دفعها بقدمه ناحية الحائط، وقرفص كمحكوم بالإعدام يصلي أن تكون رقبته أقوى من سيف جلاد الخوف. الرهبة أن يطأ صف الفتاة التي يحبها كانت شاسعة، كصحراء تعيد إحصاء حبات الرمل وترتبها بحسب ألوانها.

عندما سمع دوي صفارة الناظر، التقطت أنامله الورقة عن الأرض، أخفاها في جيب بنطاله البنّي، وقرر أن يعود أدراجه. على أحد جدران ذاكرته، شرع اليأس بدق مسمار ليعلق عليه لوحة كتب عليها بأحرف من حقيقة "لا يحق لك أن تحبّ... أيها القبيح"...

لحظات معدودة سرقت ارتيابه وتركته في منتصف جسر عليه أن يسارع بعبوره قبل أن يتمزّق ويصبح هو مسافراً إلى أعماق المجهول. دلف إلى الغرفة، بالرغم من كل تقاعسه وخشيته أن يُقبض عليه. تحوّل إلى حيوان مشوّه بالجنون لا يعرف ما هي فصيلته، جلّ ما يعرفه أنه سيتحدى الأسد.. وأنياب الأسد... بلحمه الطري...

أمام طاولتها، يده اليسرى في جيبه تلامس أطراف الرسالة التي كتبها لها كسائر الرسائل الأربع السابقة، واليد الأخرى ترفع الغطاء. أصوات التلامذة بدأت تقترب كمرفأ يرحّب بسفينة عائدة بعد طول غياب، هو، سفينة مثقوبة بأكثر من جرح لن يشفى. شحب وجهه كتفاحة مهترئة في زقاق يشبه مكان سكنه. كانت المرة الأولى التي تنتابه عوارض ضيق في الأنفاس، وشعور بالترنح قليلاً قبل أن يسقط مغشياً عليه. جلس على الكرسي... كرسي الفتاة التي يعشقها سراً منذ أشهر عديدة، أحس برائحتها تلامس بشرته المتعرقة...

تمنى في تلك الوهلة، لو بقي في الملعب يحصي غباء الأشجار في التخلي عن أوراقها... لو رافق الجسر في سقوطه إلى غياهب الهروب... تمنّى لو لم يقفز من وراء الكواليس ليشارك في مسرحية تليق فقط بأشخاص جميلة على عكسه...
يده اليسرى لا تزال تقبض على رسالة وقّعها باسم مجهول، كتب فيها أنه لا يحبها... بل يعبدها، لأن أمثاله أقزام يحقّ لها فقط أن تنظر خلسة إلى سيقان الإلهة...

في اليد الأخرى كل الرسائل الثلاث التي باعها... ما خلا تلك التي لا يزال يحتفظ بها الفتى الأنيق...

الفوضى حقيقة مصابة بالذعر... تتراءى له صورة معبودته تقرأ الرسالة الرابعة التي كتب فيها أنه (أي صديقه) يريد أن يراها نهار الجمعة بعد المدرسة...

This short story, is dedicated to seven of my Twitter friends: @Ibtehalhussein @Dh0oom_ @ZeinaGabriel @Figo29 @Shanty2 @BinMugahid @MemtiBabe Thank you for all the joy you spread around.

13 comments:

  1. i love it .... didn't expect reading part three... very nice...

    ReplyDelete
  2. Absolutely beautiful Pascal! :)

    ReplyDelete
  3. I was hooked since part one and I'm still hooked. Can't get enough of this story. Over the top.

    ReplyDelete
  4. I love the images in your writings, Pascal. Your words not only weave sentences, and paragraphs and stories, but animated and moving vignettes. Kudos.

    ReplyDelete
  5. I loved it :) Thank you Pascal :) Why does the poor guy think that he is ugly? Why is he doing this to himself? Thanks a million for the dedication :) I am really touched :) I like your style and the way your write :) I will be looking forward for the future posts :)
    Take care :)

    ReplyDelete
  6. والآن ماذا، ها نحن ننتظر فصلاً آخر
    التشويق يسود في هذه القصة والوصف مثير للتساؤل

    هل ستدخل الفتاة؟ هل تعرف بأن كاتب الرسائل واحد؟
    هل تشك بصديقها الأنيق المتزلف؟ هل سيغضب هو منه ويقتله مثلاً؟

    اسئلة كثيرة تطرح نفسها وهذا دليل نجاح القصة
    سأنتظر الإجابات، احسنت مرة ثالثة :)

    ReplyDelete
  7. هههههههههه
    كل ده وفي الآخر واحد تاني
    مبدع ياباسكال , والله مبدع
    شدتني اووي , حسيت بيه جداً , شكلي هتعلم منك كتابة القصص

    إهداءك الجميل , يشعرني بالفخر والإعتزاز والسعاده
    أسعدك الله , وكل عام وأنت بخير

    ReplyDelete
  8. Again, amazing piece! takes us to the scene where this story happened, one upon a time or no time at all.. in some place or some creative writer's mind.. regardless where or when, we see the characters, we hear their voices, live their moments and experience their feelings.. and still, can't wait to see what happens next.. we thought the fall at the bookshop was the plot.. what have you done to us, Pascal ! :)

    Thank you for whatever you're doing to us ;)

    btw, I saw this by chance! I subscribed to the email thing but didn't get one.. will check again :(

    ReplyDelete
  9. It's really wonderful, specially this sentence .. لو رافق الجسر في سقوطه إلى غياهب الهروب

    ReplyDelete
  10. Very smooth transition from the present to the past, we could see in our minds all the described images and feel them as well. Very harsh and unexpected ending.
    *Claps*.

    ReplyDelete
  11. bet3a2ed!!!!! i keep reading and reading z 3 parts barki ykun rah 3layi chi fikra aw chi soura :) keep writing coz i'm waiting :)
    N.B: يده اليسرى لا تزال تقبض على رسالة وقّعها باسم مجهول، كتب فيها أنه لا يحبها... بل يعبدها، لأن أمثاله أقزام يحقّ لها فقط أن تنظر خلسة إلى سيقان الإلهة.. is one of ur best ktir habbayta

    ReplyDelete
  12. التعاسة في أن نحب...
    لا يصبح الحب حبّاً حتى يتعمّد بالدموع..
    هو لا يعيش في القلب بل يمزقه.. يفتته.. ويعيد تركيبه خلية خلية..

    والولادة أروع كلّما صعب المخاض..

    ReplyDelete
  13. I just read this part!
    Pascal too bad you dont publish ur first book now!
    you have a way with words and a unique ability to reach your audience and keep them on their toes to know what's next and ask thousands of question about the next step!!
    this is getting more and more interesting!

    ReplyDelete

Share

Widgets