Wednesday 15 September 2010

أجمل ابتسامة ... الجزء الرابع: ظلام

Klimt Gustav - Love

لقراءة الأجزاء السابقة 1، 2، 3

الصوت المنبعث من الآلة رخيم، رتيب وممل، رغم ذلك يردد نبض قلب الرجل الموصول بأسلاك، أو ما تبقى منها ...

عيناه مغمضتان على سواد أطفأ الرؤية بضمادات تلف معظم وجهه. حزن يشبه قصيدة، وجدران تحاصر الممدد على انتظار كأنها أوراق مذكرات. الساعة قاربت منتصف الليل، الرجل النائم لا يشعر بالمد والجزر الذين يخلفهما الضوء في دخوله كل يوم عبر الشباك المتدلي من الجهة اليمنى للغرفة.

الأوجاع المتفشية في أنحاء جسده، مخدّرة بفعل الأدوية المنسابة إلى عروقه من خلال مصل علّق على سارية حديدية بينه وبين النافذة. هناك، أمام السرير، باقات من أزهار متشابهة، تحمل في أمكنة مختلفة بطاقات تتمنى له الشفاء العاجل.

جسده، الغرفة المسجى في داخلها، المبنى، الشارع والعالم كله، بالنسبة إلى الرجل امتداد لا نهائي للون الأسود. تتدفق المشاهد في ذاكرته، متعثرة، تتكسر الصور إلى قطع مرايا صغيرة يرى على كل منها، انعكاساً لأجزاء من حياته. سنواته الأربعون تشبه ثياباً مكوّرة في الزاوية تنتظر موعد نهار الغسيل. كتابات غير مفهومة تتساقط كالمطر، تصدر أصوات بكاء أشبه بعويل ذئاب جائعة.

لا يعرف أين هو، قد يكون ميتاً، في انتظار أن تذبل روحه أو ربما هكذا هو الموت، ظلمة حالكة تسجن العقل في دوامة العمر، يعيد منها الإنسان ترتيب المتاهات التي هرب منها يوم كان حياً.

أصوات انزلاق عجلات سيارة تتكرر في مخيلته، أنوار متلألئة كنجوم عابرة ومنتحرة تنهمر أمامه. تعود إليه ذاكرته، تدريجياً، البارحة، لا ليس البارحة، لا يعرف تاريخ اليوم، كل ما يذكره المرة الأخيرة التي كان فيها حيّاً أو غير مرمي على السرير. كان يقود سيارته مسرعاً، يرى ذاته بكل وضوح، ولكنه لا يتذكر الوجهة التي كان مندفعاً إليها على وجه الهروب. الطريق تتلوى، تضيع معالمها...
تنتابه رعشة، يتقوس ظهره، ترتفع طرقات الآلة، تتسارع، يستيقظ الوجع في كل أنحاء جسده يطرد كل صور الماضي القريب في رأسه، ألم لا يطاق يقصم حلقه، دوار حائر في أطراف جبينه، أنامله تنقبض، ذراعاه مشدودتان، ما تبقى من جسده يشتعل بالوجع.

فجأة يتذكر أن بطل روايته الأولى، مات في الفصل الأخير، جاهداً يحاول السيطرة على الجنون، أن يتذكر كيف أعاد إحياء البطل في الجزء الثاني ... تجحظ عيناه، يشعر بالعطش، يفتح مقلتيه، تعود الحياة إلى البقعة السوداء التي كانت تحاصره... يتذكّر.

يراها أمامه، تتلمس وجهه المتعرّق، تصرخ : "حبيبي ما بك" . وراء المرأة، أبعد بخطوتين أو ثلاث، روايته-الجزء الثاني، مرمية، تبحث عن صاحبتها، تلك الغريبة التي كانت منذ لحظات، قبل أن يغمى عليه تحمل الكتاب وتخطو نحوه من أجل توقيع، أو شيء آخر لم يعرفه.

ينظر إلى المرأة الخائفة، إلى وجهها القريب، أنفاسها تلهب شفتيه بجب لا يطيقه. رائحة عطرها تعيده إلى الواقع. وفي تلك اللحظة، كانت المرة الأولى في حياته التي تمنى فيها لو تموت هذه المرأة ... ليرتاح منها ... مرّة أخيرة وللأبد...

الصوت المبعث من الآلة، تحول من جديد إلى عبادة الرتابة والضجر، نعاس مفاجئ يزحف من يده، يطارد الألم في كل أنحاء جسده الممدد على السرير. ينسدل جفناه ببطء، يرى امرأة مرتدية رداءً ابيض تقف فوقه، وعلى وجهها أجمل ابتسامة.

This short story, is dedicated to seven of my Twitter friends: @Sarahilal000, @naeema, @aymanitani, @sdarine, @allsources_cc, @MarieNakhle, @maysashawwa. who said i forgot you

13 comments:

  1. I love the way you describe. So real. Makes you picture every detail.

    SPECTACULAR story. It should be podcasted.

    ReplyDelete
  2. قصص مشوّقة للغاية و لغة رائعة. قدرتك على حبك الأحداث و تقشير الشخصيات، غلاف بعد غلاف تجعلنانغوص أكثر و أكثر في عوالمهم و نتساءل ما المصير.... لا تتأخر علينا في التتمة

    ReplyDelete
  3. لا أستطيع أن اجد الكلمات المناسبة لوصف أسلوبك الرائع!!
    جميلة جداً

    ReplyDelete
  4. Breath taking :) Stunning :) I love your descriptions :) Everything is very very real :) I feel like walking in the hospital room with your hero. I feel like reading his mind and feeling his pain... what an amazing story :) Please don't let him die :) Is the girl who made fun of his story in the first post the same one he had a crush on when he was a young boy at school?
    Take care.
    Zeina :)

    ReplyDelete
  5. My oh my!!!! simply stunning!

    ReplyDelete
  6. your words resonates with the beats of my heart.. then it shatters into million pieces.. and I'm left breathless.

    ReplyDelete
  7. unexpected.. always unexpected. I like :)

    ReplyDelete
  8. لم اتوقع ان تصل الأحداث الى هنا
    جميل هذا المشهد، انتقال الى نمط آخر
    أكثر القصص التي تابعتها بهذا الشكل المشوق
    في انتظار المزيد من الاجابات على اسئلة تحاصرنا

    ReplyDelete
  9. Very nice ending Pascal, I just felt harshness in this sentence : كانت المرة الأولى في حياته التي تمنى فيها لو تموت هذه المرأة ... ليرتاح منها ... مرّة أخيرة وللأبد...
    This combination of feelings showing the devilish and the angelic aspect like in the ending makes your story very real and subjective to the reader, to me. I like it.

    ReplyDelete
  10. :)!
    We need an ending!! What's happening? what will happen next!! Pascal amazing storytelling skills!
    you are really good my friend! really good!

    ReplyDelete
  11. فكرت كثيرا ً قبل أن أقرّر أن أكتب تعليقا ً ..."ما"!
    أردت أن أكتب واحدا ً على كل "ابتسامة" من الابتسامات الأربع –لغاية اللحظة- و بعد محاولتي لفضح ما اعتراني من حبور و هيصة من جرّاء قراءة ما قرأت أكثر من 3 مرّات على هيئة حروف مهلهلة تحاول طبع شعوري على هيئة جمل مترابطة قلت لنفسي المشتاقة للمزيد من "الابتسامات" : سأكتب تعليقا ً واحدا ً لأني لا أجرؤ على "محاولة" المساس بأطياف الأحاسيس التي تجتاحني -و ما تزال- من غوصي في إبداع ٍ باسكاليّ جديد ٍ و كذا متجدّد مع كل قراءة و غوص جديديْن. بصراحة لا يملّ من سطورك و قلمك.

    ما أخطه كتعليق سيبدو شيئا ً مثل الآتي:
    (هو روح تائهة... استمرَدَتِ الكذب اللذيذ على ذاتها.. و مضت السنون تجرّها الأيام توالا ً تباعا ً و هي -روحه- في الانجراف عينه.

    هل كان سيستمرّ لو عرف معشار ما سيؤول إليه حال روحه؟! لا أدري و لا أظنّ أنني أريد أن أدري!
    هل كان يستمتع بصورة كربلائية مهزوزة ٍ بتعذيب تلك الروح التي اعتقد يوما ً أنها ملكه؟ هل كان ذاك الشعور معينا ً له على الاستمرار؟ الاستمرار في الوهم؟ هل كان وسيلة ً متكرّرة بشخوص شاحبة في مخيلته لوهمه بأنها ليست "حبه" الذي ينشد؟ أخاف النشوز الذي فيه مقتله؟ استمرّ حتى وجد نفسه كئيبا ً دميما ً و مقيتا ً و زاد هلعه من رفضها له.
    أخاف ألا تبادله الجنون اللذيذ؟ أخاف أن يكون منسوب جنونها أقل مما يريد؟ أخاف ألا يجد جنونا ً معاكسا ً و كذا ضامّا ً لما عنده؟
    أهذا سبب تردّده طوال السنين على اقتحام "الحقيقة" و مواجهة "كل" ما بعدها؟

    حتى بقايا ابتساماته تلاشت و ليس لها أثر، ليس له حتى بقاياها :(

    أتراه يستجمع ما بقي من جنون و يخطو به و لو خطوة عاقلة تريحه و إلى الأبد؟

    بانتظار ما ستكون عليه الابتسامة الخامسة :)

    ***لا أستطيع إلا أن أذكر إعجابي الشديد بالابتسامة رقم 3
    عبارات من شاكلة: "... إلى رقعة ملطخة بأحمر حائر" / "... أمثاله أقزام يحقّ لها فقط أن تنظر خلسة إلى سيقان الإلهة" / "... يحصي غباء الأشجار في التخلي عن أوراقها..." لا أستطيع الفكاك منها و لا بها!

    لا أعلم فيما إذا كنت أودّ له أن يجد حلاوة ابتسامته، أن يلملم شظاياها من أغوار روحه و يبوح بها "باسما ً" لها و عندها و إليها أم أنْ يبقى في تيهه زمنا ً أبعد و ... أعمق لنستمتع نحن و نحلم و نستذكر ابتسامات حانية ضائعة في حياة "ما" سابقة لدى أرواحنا.

    شكرا ً لك جزيلا ً.

    ReplyDelete
  12. من صديق قديم26 September 2010 at 18:54

    together we've climbed hills and trees

    إنني وبخلاف المعجبين (الحاليين) بك وبكتاباتك واكبتك منذ أيام الدراسة، إكتشفتك شيئاً فشيئاً ولم أزل. أعرف أنني لن أتمكّن يوماً من إحتواء كلّ وجوهك، ولكنّك لا شكّ إنسان رائع بروعة كتاباتك، وربما أكثر؟؟؟
    لقد شرّعتَ يا صديقي الأبواب واسعة على ذكريات مرّة، وصنعتَ منها أجمل الصور.
    جعلتها عالميّة، فأحسّ كل من يقرؤها أنه ينتمي إليها بشكل أو بآخر.
    عبثاً أحاول أن أربط هذه القصص بأحداث ووجوه وتواريخ، ولكنني أعرف أنها هناك، في مكان ما، وأن مثيلاتها تنتظر دورها لتجعلها خالدة كرفيقاتها بين أسطر قصصك القصيرة الطويلة.
    لا توقف هذا الدفق، بل لن تستطيع، والويل للقرّاء من سيل صورك وأنغامك.
    أفكار:
    1- ماذا لو تجعل كل يوم خميس موعداً لابتسامة جديدة
    2- ألن تطلعنا على فحوى هذه الرسائل؟
    3- الى متى ستنتظر قبل أن تلبس أبطالك أسماء نناديهم بها وتسهّل علينا التواصل?

    ReplyDelete

Share

Widgets