Friday 3 December 2010

أجمل ابتسامة ...الجزء الثامن: خفة



شعر بخفة لا تقاوم لأول مرة في حياته تشبه إلى حد بعيد اللحظات التي تسبق الدوار الذي يعانقه قبل أن يستسلم إلى إغماءة مثل التمدد فوق البحر. معظم حزنه كتبه على أوراق، منها بقيت غير منشورة، وأكثرها تناثر كسراب بين أصابع القراء. في داخله حنين إلى انتصار أخير... المواجهة الأسمى التي سعى إليها كمنت في مبارزة الموت، إلا أن غريمه بقي عصياً عليه، يرفض المواجهة، بكل بساطة لأنه لا يتقن غير الانتصار في كل معاركه. حقيقة يدركها الكاتب لكنه أراد أن تكون هزيمته عظيمة، تليق بمجالد.

اشتد الوجع في صدره، أحسس بسيلانه في كل أنحاء جسده. الدم المتدفق يشعره بخفة لذيذة، فهم بأن المواجهة الأخيرة حانت... وبأنه سيخسر... سيموت لا محالة في هذه الجولة.  صوت الممرضة يتناهى إلى مسمعه كأغنية غريبة بلغة أجنبية لا يدركها، أغنية حزينة، تليق برحيله الوشيك.

يسيرون به إلى غرفة العمليات، يقرأ في عناوين صحف الغد: "مات الكاتب الكبير بعد صراع مرير مع ..." يتوقف عن التخيّل، يعجز عن تهجئة الكلمة الأخيرة. بدت كلمة "المرض" غير مناسبة وسخيفة، وطبعاً لن يكتب "الموت"، فعبارة "بعد صراع مرير مع الموت" تبدو له تافهة إلى حد الغثيان. أما مقولة "مات بعد أسبوعين من حادث سيارة" سرعان ما ظهرت له بشكل ساخر كنعامة تقلّد طاووساً أمام جيش من النمال غير المبالية. سيذكرون بأنه نجا في البداية من الحادث، وتوفّت على الفور المرأة التي كانت برفقته... انتفض جسده عند ذكر المرأة في لاوعيه، فهي سترافقه رغماً عنه حتى في مماته، يداً بيد سيعبران درب المعركة الأخيرة. شعر بحزن أعمق من الرحيل، وأراد أن يحيا... نرجسي أناني هو، يتوق للبقاء وحيداً في إحدى أقدس لحظات حياته...

تراءت له صورة المرأة في معرض الكتاب متأبطتاً كتابه، وتذكر الحديث الذي بقي من دون نهاية. أحداث تلك الليلة ما تزال ممزقة، يحاول عبثاً أن يجمعها في ذكرى مهشّمة. ممدد على سرير تلوك إطاراته الصغيرة لحن الهدوء. يقتادونه إلى غرفة العمليات... ليموت.

فكرة جنونية سرت في هشيم الانتظار: ماذا لو كان عليه أن يلتقي –هناك- في الجهة المقابلة بالمرأة التي بات يكرهها؟ سؤال لم يكن ينتظر إجابة عنه، فقد كان جسده ينتفض من جديد كعصفور على بلاطة باردة...

يشعر بيد الممرضة تقبض على أصابعه المتعرّقة، تشد عليها، تبثه حباً بعيداً عن إدراكه. مجرّد امرأة لا يعرف لها وجهاً محدداً. الأصوات التي تحوطه مبهمة لا يفهم مكنوناتها... تعود به الذكرى إلى أيام الدراسة...

هو ينظر إلى الرسائل، ميّز خطّه المرتجف، فهم أن صديقه الأنيق يشتري منه الأشعار ليغري الفتاة الوحيدة – الأولى – التي عشقها في زمن يؤمن بأن أمثاله منفيون عن الحب.

الدوار الذي يسبق الإغماءة، حضر على وجه السرعة، خارت ساقاه، عجزتا عن حمله، جلس، وأنتظر التلامذة ان يدلفوا إلى الصف.

مقتنع بأنه سيتهم بأنه لص يسرق من طاولات زملائه. لن ينكر ذلك، تهمة بشعة ولكنها أفضل من أن يكتشفوا بأنه بائع أشعار وضيع.

فجأة، اهتزت أرضية الصف بكل أشكال التلامذة التي لا يعرفها، فهو في غرفة غريبة بين أشخاص تكبره على الأقل بسنة واحدة. توجه كل تلميذ إلى طاولته، هو كان يبحث عن الفتاة التي يجلس هو - كمتهم - إلى طاولتها. بين الوجوه المتسائلة لم يجد نظراتها الساحرة، سأله احدهم عما يفعل هنا، لم يجاوب، لم يقو على تحريك شفتيه، كان راضيا بأي مخرج، واقسم أنه، لو خرج بأشلاء كبرياء أن لا يواجه الحب مرة جديدة.

السؤال، تحول إلى أسئلة. الشاب، تحول إلى مجموعة. المجموعة أضيف إليها أستاذ بدين، شكلوا دائرة بدأت تلف الخناق حول غربته. نظر إلى أبعد من هجومهم البطيء صوبه، إلى السبورة، قرأ معادلة في الحساب، حاول أن يفهمها، أن يحلها، وأسدل جفنيه على أمل...

في الأحلام، ابتكر خدعة تنطلي على الكوابيس. في كل مرة وجد ذاته في مأزق، يغمض عينيه، لينتقل إلى حلم آخر، كابوس آخر.. لينجو من الحلم... إلى حلم آخر قد يكون أفظع... ولكنه يستطيع ككل مرة، أن يكرر فراره مرة جديدة.

يد الممرضة تشده صوبها، لا يزال وجهها عصياً على إدراكه، ولا يزال يجهل ماذا أرادت المرأة التي التقى بها في المعرض أن تقول، يسمع سؤالا في الخلف يلح طلباً بجواب:
-" هل وصل الطبيب؟"

وفي الوقت نفسه، سؤال آخر عمره عشرين عاماً يجلده بقساوة أمام بقية التلاميذ:
-" ماذا تفعل هنا أيها اللص؟"

الحقيقة المرعبة أنه سيموت، الحقيقة كابوس آخر...
يغمض عينيه...

5 comments:

  1. كم هو جميل امتزاج الماضي بالحاضر في لخظة تحاول التغلب على المستقبل.

    ماذا يخبئ الوقت لهذا الكاتب العالق بين الذاكرة والانتظار ؟

    ReplyDelete
  2. نرجسي أناني هو، يتوق للبقاء وحيداً في إحدى أقدس لحظات حياته...
    :)

    ReplyDelete
  3. هو فعلا ينازع ...
    جميلة جداً!!

    ReplyDelete
  4. No he is not going to die.
    Pascal, the writer is not going to die. He can't die now. We still have so many questions and so many things to know about. We need more time and more answers. Please don't kill him now.
    I read somewhere that it is all about attitude and perception, and it is all in his mind. Let him ... umm... urge him to think... ummm.. urge him to opt for life and he will live. I read this morning the following passage in Paulo Coehlo's blog:
    "I felt scared to leave this path that I knew so well. But the moment I stepped out, it turned out that all the demons I expected to face weren’t there at all. I had hardships of course, but all was worthwhile – because my soul was alive."
    He has so many things to gain if he remains in this life, after all, "the demons he is expecting to face won't be there at all", it is all in his mind.
    And tell him not to worry about the woman he hates, he can always leave her, divorce her, take a break from her... When there is a will, there is a way. If he has a will to change all that, he can and he will.
    And by the way, does it really matter what the newspapers are going to right about him when he dies? He doesn't need to know because he won't be able to read it, and trust me, the people who would write about him won't have a clue about his world. They will simply write to fill pages and spaces.
    One more thing, if he dies now, he will never get to know the nurse who seems to love him and to care for him.
    By the way, did you know that once you close your eyes (and you are not sleeping) you go to a wonderful world? I like his strategy of closing his eyes when he is in trouble. I bet it solves so many problems because he becomes relaxed and he would be able to think properly.
    Thank you :)
    Hope to hear and read from you soon :) ( very soon)...
    Zeina :)
    Happy New Year :)

    ReplyDelete

Share

Widgets