أجمل ابتسامة ...الجزء السادس : المكتوب

دخل إلى المنزل، وضع المفاتيح على المنضدة، في المكان المخصص لها، خلع حذاءه، أشعل زر الكهرباء، أنيرت غرفة الجلوس بضوء خافت. نظر إلى الساعة في معصمه، العقرب الصغير يشير إلى الرابعة صباحاً، ساعتان قبل أن يبدأ نهار آخر. البيت مرتب، نظيف، أشبه بمتحف.

في منتصف الغرفة بيانو كبير، لم يعزف عليه إلا مرة واحدة، منذ خمس سنوات عندما اشتراه. قطعة أثاث صامتة تجذب النساء، تراقبهن ببلادة. عذره دائماً، عندما يُسأل لماذا يملك بيانو، بأنه ورثه عن والده، الذي ورثه بدوره عن جده. عائلته تحب الفن، ولكنه هو، اختار طريقاً آخر...

يجلس على الأريكة، يضع رأسه بين يديه، لا بد أن ينال ولو قسطاً صغيراً من الراحة. يدخل إلى الحمام، يغسل أسنانه البيضاء لثلاث دقائق كاملة، يتأمل انعكاس وجهه في المرآة، ككل ليلة، يفكّر، ربما كان عليه أن يتزوج، بدلاً من أن يتحول إلى زير نساء لا يشبع من البحث عن أجساد جديدة. يبتسم، ثم يطلق ضحكة صاخبة، ساخرة، الزواج لا يليق بأشخاص مثله، هو طائر يهوى السقوط عن أغصان الشجر على وقع دوي رصاص الصيادين.

نظر إلى الساعة مرة أخرى، انتبه أن الغد، أو ما كان يظنه بعد ساعتين، هو يوم عطلته، ينتابه اطمئنان لذيذ، يتوجه إلى غرفة النوم، يجلس على حافة السرير، يفك أزرار قميصه، يتملكه وهن، يُثقل تعب النهار الذي مضى جفنيه، يتمدد على جانبه ويغفو.

* * *

عندما سمعت المرأة تنادي الكاتب بكلمة حبيبي، تساقطت كل الأسئلة الصاخبة في رأسها، تكومت حولها، وأضرمت نار الغيرة في كل عقلها. وفي تلك اللحظة، التي صدقت لوهلة، أنها هي الفتاة الجميلة، التقت أخيراً بفارس أحلامها، أحست بجسد يدفعها، ويسقطها أرضاً. للغرابة، أمسكت الكتاب بكل عناء، وكأنه تحول إلى دليل أنها لا تحلم. الكاتب الذي كانت تراه الآن، رائع الجمال، مضافاً إليه إعجابها العميق بكتاباته، كان قد نظر إليها بسحر غامض قبل أن يُغمى عليه. شعرت وكأنها تعرفه، منذ زمن بعيد، رغم ذلك كانت أكيدة، أنها المرة الأولى التي تراه فيها.

وقفت، بعد السقطة المفاجئة، هناك جمع يحجب عنها رؤية الرجل، حاولت الاقتراب، ولمّا سمعت للمرة الثانية تلك المرأة تصرخ معلنة للجميع أنها حبيبته، أحست بسكين يطعنها في قلبها الذي عاد يخفق منذ لحظات معدودة.

فتح الكاتب عينيه، أول ما بحث بين الوجوه عنها، نظر إلى آخر مكان رآها فيه، ولم يميّز من وجودها غير الكتاب المرمي على الأرض. الأصوات المنبعثة حوله تشعره أنه سقط في بئر سحيق من الوجوه التي لا يعرفها. يغمض جفنيه، يفتحهما، لا تتوقف نظراته عن السقوط مرة تلو الأخرى في فراغ الأجساد.

انسلّت هي من بين الحضور، توجهت من دون أن يلمحها، إلى البقعة التي سقطت فيها، تناولت الكتاب وابتعدت بحزن. لم تفهم لماذا شعرت بغيرة من المرأة الأخرى.

بعد خمسة عشر يوماً، تعيد تذكر تلك الليلة، بكل تفاصيلها، الكلمات القليلة التي تبادلتها مع الكاتب، نظرته الغريبة التي رمقها بها قبل أن يسقط كقطعة جليد من جبل، فيذوي بين الأشخاص المتهافتة عليه. ندمت أنها لم تنتظر، وبأنها رحلت، تركته هناك بين ذراعي امرأة شقراء تكبرها على الأقل بعشر سنوات، تخلّت عنه قبل أن تملكه.

تعود إليها تكراراً نظراته، تشعر بأنها تعرف تلك النظرة، وهاتين العينين، هكذا هو الحب من أول نظرة، تقول. ثم ما تلبث أن تبتسم من سذاجتها، غبية هي، تفكر، أغار عليه، والآن اعتقد بأنني أحبه، وأنا لم ألتق به لأكثر من خمس دقائق في حياتي كلها.

تقرأ في الكتاب، تستطيع أن تراه في بطل الرواية، لا يشبه الملامح التي رسمتها له عندما طالعت الجزء الأول. اليوم في الجزء الثاني، إنه هو، رجل لا يشبه سائر الرجال... رجل تحوّل إلى كل الرجال.

بعد يوم من لقائها بالكاتب في معرض الكتاب، قرأت في الجريدة، أنه تعرّض لحادث سيارة، وبأنه نجا بأعجوبة من الموت، وبالرغم من أن حالته باتت غير مستقرة. في كل مرة حاولت أن تزوره كانت تتراجع، فكرة أن تلتقي بالمرأة الشقراء، حبيبته، تذكرها بالوجع الذي عانته ليلة سمعت دوي هذه الكلمة مرتين. بدأ النعاس يتسلل إلى جسدها النحيل، الصبح على بعد ساعتين أو أقل، خلدت إلى النوم، وقبل أن تغفو أقسمت أنها غداً، ستذهب لرؤيته في المستشفى.

* * *

رنين جرس الهاتف، أشبه بزعيق ببغاء، عند الرنة الرابعة، كان يقفز من سريره كانتحار، يلتقط السماعة ويستمع إلى ما يقوله على عجل الشخص على الطرف الآخر من المكالمة:

- "دكتور، عليك أن تسرع، المريض في الغرفة 13 يحتاج إلى عملية مستعجلة.

- "الرجل الذي تعرض لحادث منذ أسبوعين؟"

أتاه الجواب إيجابا، وأضافت الممرضة:

- " يعاني من نزيف حاد في صدره..."

كان هناك صمت أشبه ببكاء أصم، ثم قالت:

- " سيموت"

لم يستمع إلى بقية الشرح، كان يهرول باتجاه الباب الخارجي للمنزل، يرتدي على عجل حذاءه، يلتقط المفاتيح، ويخرج ... 

This Part of the Most Beautiful Smile is dedicated to Zeina Gabriel for her sweet comments and support.