رقعة شطرنج - خطوة متعثرة

John White Alexander

- "الحياة رقعة شطرنج نتحدى عليها الموت".

قال الجملة الأخيرة بصوت هادئ وهو ينظر بعينيه الواسعتين باتجاه محدّثه. صمت من دون أن يشيح بنظراته مبتعداً إلى أي فسحة مظلمة في القاعة. لم يكن ينتظر إجابة. فما قاله لم يكن سؤالاً، أو شرحاً، أو حتى فكرة مجنونة أراد بها أن يتفاخر أمام المستمعين... ما نطقه كان عمراً في تجربة...

المذيع، صمت أيضاً، بدا مذهولاً، فارغ الفاه، جمد كصرصار حوصر في ركن، وبالتالي يترقّب ماذا سيحصل.

من وراء الزجاج الذي يفصلهما عن الغرفة المجاورة، ذراعين تصارعان الهواء وكأنهما تشنّان هجوماً معاكساً على بعوض لا يخاف من ضخامة عدوّه. المخرج تعب من محاولة استرداد مجرى الحديث. من جهة وجد نفسه خائر القوى وعاجز عن معاودة الألفة بين المذيع وضيفه، وفي الجهة الأخرى رجلان ساكتان كمن يصغي إلى هدير عاصفة تقترب على مضض.

المخرج فهم بأنه الوحيد المنوط به إخراج الجميع من ثقب أسود يبتلع كل شيء، الأستوديو، الرجال الثلاثة والبرنامج الثقافي. لم يفهم هو أيضاُ ما قاله الكاتب، لم يسمعه أصلاً أكثر من نغمة في الخلفية تعني له أن المقابلة جارية، وبأنها ستنتهي على خير بعد زمن قصير. تلاقت نظراته بالعيون الأربعة الساهية، وضع اسطوانة ممنياً النفس أن لا يكون المستمعون قد فطنوا للتوقّف المريب في الحديث.

عندما وقف، سقط كرسيه أرضاً مصدراً جلبة فظيعة لم تصل إلى آذان المستمعين عبر الآثير لأنهم كان يستمعون إلى معزوفة كلاسيكية، وطبعاً لم يسمعها الرجلان في الغرفة المجاورة... ولذلك بقيا على جمودهما. أحدهما مطرقاً يفكّر بما قاله، والآخر على ذهوله، غارق في بلاهة تشبه كل ماضيه.

لمس المخرج زر الاتصال المباشر بين الغرفتين، وصرخ بالمذيع:

- "أيها الأبله، ما بك صامت كمستودع نفايات؟"

- "آسف" ردّدها المذيع مرّات ثلاث، وأردف بصوت خفيض: "لم أعرف... لم أفهم... آسف..."

- "جد ما تقوله على وجه السرعة، وإلا ستجد نفسك في الشارع تبتكر أشكالاً مزرية للتسول".

أنهى المخرج وعيده، وجلس على كرسيه من جديد في اللحظة التي كانت المعزوفة تنهي مقطوعتها الأولى.

الكاتب، عندما سمع الصراخ، سقط عن أفكاره الشاهقة، ليجد ذاته الخفيفة فجأة تحوّلت إلى مسبّب لألم لا يحتمل. هو كان يعرف ماذا يعني أن يعيش المرء في حالة خوف مستمر من الحاجة. نظر إلى المذيع بحنو والد، وكأنه يطلعه على سرّ لا بد أن يريحه. على وجهه، وتحديداً على الشفاه ذاتها التي نطقت تلك العبارة... رسم بمهارة أجمل ابتساماته.

بصوت متلعثم بالغباء سأل المذيع مضيفه، وهو ينظر بطرف عينه اليسرى إلى ما وراء الزجاج، حيث يقبع المخرج المتربّص بكلماته:

- "أنت متّهم بالـ .... "

غابت الكلمة عن ذهنه، رفع يده، مسح فمه بقفا كفه، بلع ريقه وتمنّى لو يختنق قبل أن يعمل المخرج على إذلاله بتأنيب لاذع آخر...

- "أنا متهم بالجنون"

تكلّم الكاتب من دون أن يفكّر بما قاله. لفظ أول كلمة ظهرت أمامه مشعّة على جدار انتظار حالك.

أسرع المذيع إلى الترديد كببغاء تنطق للمرّة الأولى وقد تعلّق بالأمل الذي رماه له الكاتب:

- " نعم، نعم الجنون"

فهم الكاتب أن الرجل يعوم في بحر من ضياع، لم يعد يفكّر بالنجاة، وبأنه هو الذي ورّطه عليه أن ينقذ الموقف أولاً، وثانياً صورته التي تبثّ مباشرةً على أثير الراديو. قال:

- "الموت يحب الأذكياء، يستمتع بمشاهدتهم يخسرون أمامه أكثر من الضعفاء."

الفكرة الثانية، عندما سمع صوته، شعر بأنها جاءت ألعن من سابقتها. توقّع أن يصمت المذيع مرّة جديدة، وبقدوره أن يختلس النظر إلى المستقبل ليسمع تعنيف المخرج الذي كان قد وقف مرّة جديدة، وكاد أن يلتصق جسده النحيل بالزجاج. ولذلك، ولكي لا يعيد تكرار ما حدث آنفاً، أكمل الكاتب حديثه:

- "في روايتي الأخيرة قتلت البطل، لأنني أردت أن أقول، وتحديداً للموت، أنه خسر هذه المعركة، وبأنه قد آن الأوان أن يبتكر أساليباً جديدة في التعاطي مع البشر".

الكاتب، بعد كل جملة قالها، كان يلعن الساعة التي وافق فيها على إجراء هذه المقابلة، كل ما قاله حتى الأن ترهات وهو يعرف ذلك، ما قيل لا يشبه مطلقاً ما كان يقصده. عاجز عن التعبير، ضعيف هو... وخائف.

وجد المذيع نافذة مشرّعة وقرّر أن يمد رأسه منها ليشارك في الحديث، ليثبت للمخرج أنه محدّث نزق، سأل:

- "ولكنني لا أرى أين فلسفة الوجودية في نهاية كهذه".

- الوجودية لم تكن قط في النهايات، هي دوماً في ما يسبقها. الإنسان لا يختار زمان أو مكان ولادته، ولكنه المعني الوحيد بحاضر(ه). كل لحظة هي بداية، وكل بداية خيار، ما يجعل كل خيار تحضير لحياة أفضل... أو أسوء".

سكت الكاتب...

سكت المذيع...

نظر المخرج إلى الضوء الأحمر الصغير أمامه، أشار بسبابته إلى الرجلين. تكلّم المذيع بصوت واثق، وأخيراً وجد نفسه يؤدي الدور الوحيد الذي يتقنه ببراعة، قال:

- "لدينا اتصال هاتفي مباشر على الهواء... ألو نعم... "

This is the first episode of another story, I did my part, now it is up to Joelle Hatem to continue and bounce back the story to me. Good luck… time is ticking…. 1 week

Dear readers, your feedback and questions are more than welcome and so much appreciated. After all, what is better than a writer are his readers


Part two of the story is here