بينما كانت بيروت ترزح تحت حرّ قاسٍ لف سماء العاصمة طيلة شهر أب، كانت منطقة بيت الدين تنعم بنسيم ليلي بارد أشبه بإطلالة خجولة للشتاء. أكثر من أربعة آلاف شخص حضروا، غصّ المدرج بحركتهم، تفقدوا أمكنتهم، وما كادت الساعة تقترب من التاسعة مساءً، حتى امتلأت كل المقاعد، وعمد القيمون على الأمسية إلى إضافة عدد آخر من الكراسي في نواحي المدرج. جلس الحضور يترقّب، فالليلة حنين إلى صوت مارسيل خليفة، وانتظار أقرب إلى التأمل في موعد مع الموسيقى.
أوشحة بألوان مختلفة لفّت أكتاف الحاضرين. عازفو الأوركسترا، الكورس، وبعض المستمعين، اختاروا الكوفية بلونيها الأبيض والأسود تعبيراً عن دعم قضية فلسطين، وطن عربي آخر يعاني من التخلّي.
أعضاء "أوركسترا فلسطين للشباب"، أكثر من 60 عازفاً بقيادة المايسترو البريطانية شون ادواردز (Shon Edwards)
جاؤوا من لبنان، مصر، سوريا، العراق، فلسطين والهندوراس. باقة من الجنسيات المختلفة، اجتمعت في ليلة الأربعاء 12 آب 2009 وتركت في نفوس الجمهور ذكرى أمسية عبقت برائحة حب الأوطان.وبمناسبة اختيار القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009، كانت الأمسية تحية للشاعر محمود درويش في الذكرى السنوية الأولى لغيابه، هو الغائب الحاضر في الكلمات.
حفل استمر لأكثر من ساعتين، تنوع برنامجه بين أقسام ثلاثة. الجزء الأول غنائية بمشاركة أميمة الخليل من لبنان، ريم تلحمي وباسل زايد من فلسطين، تحت عنوان "أحمد عربي"، قصيدة عن المقاومة كتبها الشاعر محمود درويش وألّف موسيقاها مارسيل خليفة في العام 1983. ومع "القدس شمس الحرية، واليوم نغني أحمد العربي" بدأ خليفة حفلته ليدخل الجمهور معه إلى عالم آخر، ورددوا معه عالياً "أنا أحمد العربي\ فليأت الحصار\ جسدي هو الأسوار\ فليأت الحصار".
في الجزء الثاني عاد مارسيل متشحاً بشاله الأزرق، الذي شارك فيه مع فرقة الميادين ورافقه ولداه، رامي على البيانو، وبشّار على الدربكّة والدف، إسماعيل رجا(Ismail Raja) على الكلارينت، بيتر هربرت (Peter Herbert) على الكمان، ناصر سلامة(Nasser Salameh) وألكسندر بيتروف (Alexandre Petrof) عارفا إيقاع.
عند أداء أغنية "يطير الحمام، يحط الحمام" توجه مارسيل إلى الجمهور طالباً منه أن يشاركه الغناء وتحديداً الصف الأول حيث جلس عدد من السياسيين وفعاليات البلد. وبعدما أطلت أميمة الخليل لتغني "عصفور طلّ من الشباك"، عصف المدرج بصراخ البهجة، ما دفع مارسيل إلى سؤال الحاضرين ممازحاً إذا ما زالتالكلمات في الذاكرة.
وبعد أن أهداها "إلى كل المعتقلين في السجون الإسرائيلية"، اخترقت المدرج عاصفة من التصفيق، انتظرها لتهدأ وأردف مبتسماً "والسجون العربية". في تلك اللحظة، وعلى وقع كلمات "كل قلوب الناس جنسيتي، فلتسقطوا عني جواز السفر"، شعر الحضور بأن التصفيق والصراخ لم يعد كافياٌ فوقف تحية لكل... المساجين.
أما أغنية "يا بحرية" فكانت الأكثر صخباً في الحفل، قديم جدده مارسيل بحضوره وعزفه الرائع، رافقه عازف المزمار (كلارينت) لبضع دقائق أذهل فيها الحضور بتمايله كالنسيم مع اللحن، أكمل بعدها مارسيل المقطوعة على العود على وقع تصفيق هادر. كما عزف على العود مقطوعة من قصيدة "محمد الدرة" و"أنا يوسف يا أبي" ليجعل هذا الحفل لوحة متكاملة من إنشاد جماعي وفردي ومعزوفات موسيقية وإلقاء شعري، لوحة رسمها الوطن المنسي في حسابات من نصبوا نفسهم قيّمين عليه.
في القسم الثالث غادر مارسيل ليجلس مع الحضور وعادت الأوركسترا إلى المسرح. منفردة، أدت ريم تلحمي أغنياتها "يا غزة" وإحدى قصائد محمود درويش "خضراء أرض قصيدتي \ خضراء عالية\ على مهل أدونها\ على وزن النوارس\ في كتاب الماء أدونها" واختتمت الحفل بأغنية عن القدس من كلمات وسيم الكردي وألحان سهيل خوري.
في نهاية الأمسية قدّم الوزير غازي العريضي ميدالية كمال جنبلاط وسجادة صلاة من صنع يد حرفية لبنانية لأعضاء الأوركسترا، كما قدمت السيدة نورا جنبلاط درعاً تذكارياً للأوركسترا ممثلة في مديرها، الملحن والموسيقي سهيل خوري. وبقي التكريم الأكبر الذي قدمه الجمهور وفي مقدمتهم وليد جنبلاط، طارق متري، جان أوغسبيان، زاهي وهبي، والسيدة جيزيل خوري تصفيقاً وتفاعلاً مع أغنيات وقصائد في ليلة موسيقية ارتقت إلى حد الإبداع.
No comments:
Post a Comment