الخارطة الكبيرة التي جرى تعليقها في إحدى غرف بلدية "سن الفيل"، وثيقة تظهر أن منطقة "سوق الأحد" تقع على العقار رقم 2505، وهي أرض تابعة لمجرى النهر تمتد على مساحة 9550 متراً مربعاً من ضمن الأملاك العمومية النهرية التابعة للبلدية. بدايات السوق تعود إلى العام 1985، وأهالي المنطقة يطلقون على هذا الطرف من النهر إسم "جسر الواطي"، المعروف اليوم بزحمة السير أيام السبت والأحد، والبعض يسمّيه سوق الفقير.
القيمون على سوق الأحد سئموا فضول الصحافيين، يتجنبونهم قدر الإمكان، وإن اضطروا يبادرونهم بسؤال افتتاحي: "ماذا تريد أن تكتب؟"، يجب أن يكون الجواب "لمصلحة السوق وأهميتها"، وإلا يرسب الصحافي في اختبار الدخول إلى ما وراء الكواليس.
أما عندما يجتاز المرحلة الأولى، فيستقبله الأستاذ "طوني شديد" في مكتبه الواقع على بعد بضعة أمتار خارج أسوار السوق. اعتاد الرجل هذه الأسئلة، أو تمرّس عليها، فأجوبته سريعة، حاضرة، ومقتضبة.
دور القيمين على السوق يكمن في الاهتمام بالإدارة، النظافة، الإنارة، الترتيب، التنسيق، توعية البائعين، والمحاولة قدر الإمكان تجنب المشاكل وحلها بأسرع وقت ممكن. أما في حال حدوث طارئ أمني فيتصلون على وجه السرعة بمخفر منطقة "الأشرفية". مهمة القيمين صعبة بفعل مرور أكثر من 35 ألف زائر في اليوم، لكنهم يعتبرون أن كل التفاصيل تحت السيطرة، والمشاكل طفيفة، كما أنهم نجحوا منذ العام 1996 في تحسين وتنظيم السوق.
الكل مدعو للمشاركة في السوق في حال وجود أمكنة شاغرة لعرض البضاعة، وتبقى الأفضلية للباعة الأوائل وللبنانيين عموماً، فقليلة الأمكنة المؤجرة للأجانب. هناك أكثر من 400 ركن مؤجر في داخل السوق، أما "البسطات" المتناثرة في الخارج وتحت الجسر فهي عشوائية تنمو كالأزهار البرية ولا تتبع السوق ونظامها الإداري. بدل الإيجار 1500 ليرة لبنانية للمتر الواحد من دون احتساب الأمتار الإضافية الثلاثة المخصصة لطريق عبور الزائرين. والخارج موقف مجاني لرواد السوق.
التحضير يبدأ صباح السبت، والبيع يتم بمعظمه نهار الأحد.
15 موظفاً مهمتهم تبدأ مساء الأحد، بعد أن تكون السوق قد انتهت. يكنسون الأرض ويلتقطون مخلفات اليومَين السابقَين، ليطلّ فجر نهار الاثنين على سوق نظيفة تماماً كما كانت صباح الجمعة. مهمة تتعدى داخل السوق لتطال ما تحت الجسر وأطراف الطرقات المؤدية إليها. السوق مجهزة بثمانية حمامات عامة، كل الباعة يملكون إيصالات بالبضائع المعروضة، واللجنة تدفع مستحقاتها كاملة للدولة اللبنانية.
عندما تستوقف الأستاذ "طوني شديد" لتسأله عن مشاكل اللجنة مع البلدية، ينظر إليك لبرهة وكأنه يحاول قراءة ما تعرفه أنت، ثم ما يلبث أن يبتسم، فقد أجاب عن كل الأسئلة المرتبطة بهذا الموضوع سابقاً في سياق الحديث من دون ينسى أي تفصيل، ينهي الاجتماع قائلاً: "لا مشاكل أنا والبلدية... الحمد لله ".
الدعوى بين القيمين على السوق والبلدية، قديمة، وتعود في الزمن عقدين إلى الوراء. بلدية سن الفيل تدافع بشدة عن حقها في هذه الأرض، معركتها طالت لكنها متأكدة من الفوز في هذه القضية، فصكّ الملكية بحوزتها، والقضاء لا بد أن يقول كلمته عاجلاً أم آجلاً. خلال الأحداث اللبنانية الأخيرة تم استثمار السوق بموجب قرار أصدره وزير الطاقة والموارد المائية الوزير السابق "إيلي حبيقة"، واعتُبر السيد "أنطوان شديد" مستأجراً لهذا العقار. لكن هذا القرار يعتبر اليوم بحكم الملغى، لأن العقد يحتاج إلى تجديد كل عام، كما أنه لا يحق لأي وزير أن يصدر قراراً من دون موافقة مجلس الوزراء. قد سبق للبلدية أن رفعت دعوى ضد القيّمين على السوق وأخذت حكماً بالإخلاء صدر في الجريدة الرسمية بتاريخ 15/2/2007 قوبل بطلب استئناف من الطرف المدّعى عليه، فتم توقيف التنفيذ وما زالت الدعوى سارية.
يعتبر الأستاذ "نبيل كحالة" رئيس بلدية سن الفيل أن هناك قطبة مخفية في هذا الملف، متسائلاً عن سرّ المماطلة والتأخير في حل المشكلة. فمن حق البلدية أن تسترجع أرضها بحكم سند الملكية، وأي مشكلة تُعالج في الدوائر الحكومية، بما أن المسألة تخص البلدية ووزارة الموارد المائية وبالتالي فالإشكال يجب أن يبت فيه مجلس شورى الدولة. فلتُسترجع الأرض وليتم تطبيق القانون عليها مهما كان حكم القضاء.
عدا الزحمة الخانقة التي تقفل باب بيروت بسيارات الأجرة والعربات المرصوفة يمنة ويسرة، فإن عملية البيع والشراء في السوق تعتبر غير قانونية، فهي تجري من دون فواتير ولا أسعار محددة، والبضاعة التي تعرض لا يعرف مصدرها أو تاريخ صنعها وانتهاء صلاحيتها، والمستأجرون لا يقدمون أية أوراق ثبوتية.
البلدية تعتبر أن السوق مخالفة قانونياً لأن القيمين لا يقدمون بدل إيجار للدولة في حين أنهم يتقاضون رسوما (إيجار) من أصحاب البضائع المعروضة. ويمثل هذا التكتل البشري العشوائي كارثة بيئية وصحية على مدخل منطقة "سن الفيل"، فالسوق غير مجهزة كما يجب، والنفايات حولها تمتد إلى خارج الأرض المستأجرة. إمدادات الصرف الصحي تصبّ مباشرة في النهر، ولا حمامات مجهزة، وثمة كميات هائلة من الأكياس والنفايات ترمى في المجرى النهري. المشكلة تخطت أسوار السوق، فعمد كثيرون إلى افتراش الأرصفة خارجه، وتحت جسر نهر بيروت وبسطوا بضائعهم عشوائياً.
نحو 5000 عائلة تعتاش من هذه السوق، والبلدية تؤكد أنها لا تريد قطع أرزاق الناس، ولا تبغي الربح، بل تتعاطى مع هذا الملف بشكل جدي وقانوني. وقد جرى اجتماع مع وزير الداخلية والبلديات طرح خلاله رئيس البلدية عدة بدائل لهذا الملف. منها انتقال السوق إلى منطقة الأسواق في الكرنتينا حيث المساحات شاسعة وصالحة للاستثمار، أو تحويلها إلى سوق يومية متنقلة تستقبله كل يوم منطقة تقدم فيها البلدية أرضاً مجانية لأصحاب "البسطات"، وبهذا الحل يمكن لكل المناطق أن تستفيد من فكرة السوق ولا يتم احتكارها في زاوية واحدة.
يشتكي أهالي منطقة "سن الفيل" من تأثيرات السوق عليهم، فالموقع مخالف، دورية الشرطة تبقى خارجه، وهناك مضاربات غير مشروعة بنظرهم على تجار المنطقة، ناهيك عن أن البضاعة المعروضة قد تكون مسروقة، وأصحاب "البسطات" غير لبنانيين بأكثريتهم، وتحديداً ليسوا من السكان المحليين. بعضهم لا يريد لهذه السوق الشعبية أن تغلق بل يطالب بتحسين أوضاعها من تنظيم وترتيبات صحية وأمنية، والبعض الآخر يريده أن يقتطعها من جذورها ويزرعها في مكان ما خارج منطقة "سن الفيل".
في أواسط التسعينات اعتصم أهالي المنطقة ومعهم رئيس البلدية السابق الأستاذ "سامي شاوول"، رداً على اعتراض القيمين على السوق لقرار المحكمة واستئناف الدعوة. يومها حاول بعض الصحافيين تصوير السوق، فتعرّضوا للضرب.
..اليوم ينتظر محبو وكارهو سوق الأحد على حد سواء، قرار المحكمة، ليعرفوا إذا كانت السوق ستستمر حيث هي، أم ستنتقل إلى بقعة أخرى لتحول البلدية المكان إلى حديقة عامة.
http://www.nowlebanon.com/Arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=111925#
No comments:
Post a Comment