شعورٌ ينمو فجأةً في داخلك. شعورٌ صغير جداً يبدأ بالتنقل في الجسد كاللص. يقتات من الوقت الضائع في اليوم ويسيل كالسمّ في العروق المنهكة. محارب لا يسأم التيه في الثنايا المظلمة من صدرك. فجأةً، من دون أن تدري، تسمع وطأة خطواته الماردة تدوس أرض عقل هائج بألف فكرة وألف وجع. تهتزّ الصور المعلّقة على جدران ذاكرتك، يتفكّك إطارها، يسقط... على أكثر من فوضى وأقل من رائحة سلام مفقود مع الذات منذ زمن بعيد.
انقباض في القلب، ونبضات غير مسموعة، استغاثة تخنقها رياح عاصفة هوجاء بدأت بالتكوّن رغماً عن ثقافة بنيتها على مدى أعوام، فكرة فوق فكرة، وطريقاً عبرتها بمثابرة، من الجهل إلى المعرفة. حكاية شخصية بنيتها بتشجيع من الأهل والأصدقاء، وأخيراً ثمار قطفتها من أغصان حياة قاسية، فكانت غير ناضجة، مرّة المذاق، ومسروقة من مواسم تجربة تحملهاً صاغراً على كاهليك إلى حيث يجرّك العمر.
شعور يسافر في أنحاء جسمك، مرافئ انتظار تخلو من عبق الراحة، وتحضير على عجل لرحلة أخيرة تحطّ رحالها في جزء قاتم من رأسك. بذرة صداع تتمدّد كخيوط عنكبوت وقحة، لتفقد رويداً رويدا أعصاباً موروثة، إنتاج أكثر من ربع قرن من الحروب العبثية في وطن يحاصرك في تفاصيل حياتك.
تحمل يداً غاضبة، تبعثرها على جبينك، تحاول يائساً حصر الصداع في رقعة واحدة. ساقان تعبران الأروقة كالموج، وأصابع مرتجفة تعبث بمحتويات صندوق أبيض يضيق بشتى أصناف الأدوية. تبتلع حبة، تفكر لبرهة في أنها لن تنتصر في معركة غير متكافئة مع الألم. تزدرد حبة ثانية، وتنتظر.
يكشف الشعور النقاب عن وجهه المستور بتباهٍ من خلف غشاء خيوطه مستلهمة من تسارع الأحداث: إنه الغضب الذي يستيقظ من سبات مرهف الإحساس، عبثاً تحاول إطالة أمد نومه. غضبٌ يمتصّ الصواب من التفكير، ويهدم صورة رقيّ رسمتها لوناً فوق لون على مر السنوات لنفسك، لتظهر على العلن صورة أخرى مختبئة في القعر تعكس وحشاً مفترساً يعيش في دواخل كل منا. وحش يخرج من الفم، يهدم قمقماً يسيّجه، ويقفز من النافذة على شكل كلمات نابية لا تصدّق أذناك أنك قلتها لأول ضحية صدف وجودها أمام تحولك كائناً لا يشبه الإنسان المتحضّر. تجحظ عيناك، تنفر العروق في وجهك المتجعّد، ترتجف شفتاك من السخط. إرادة مهترئة لا تستطيع التحكم بسيل من الشتائم تخجل من تذكرها لاحقاً.
هستيريا غضب، وزوبعة كلمات تخلّف وراءها حزناً يسيل دموعاً غير مرئية على وجه من تلقّى تعنيفك، مستغرباً كيف تصدر منك عبارات لا تليق بماضيك أنت، ولا بحاضره هو. ينصرف عدواً لا يلوي على شيء من أمام عاصفة من السكوت، يلملم أشلاء خيبة ممزقة، وينزوي خلف أحد الجدران ممتصاً حزنه.
تنتبه بعد فوات الأوان. ترمق بحسرة آثار خطواته الهائمة في دروب ذكرى ما حدث. ما أصعب الاعتذار، وما أسهل الصمت والركون إلى زاوية بعيدة عن تأنيب الضمير... ولو إلى حين.
هذه هي المعادلة بكل بساطة. كلمات قليلة نتفوّه بها، لا تكفي من بعدها مئات العبارات لمحوها. اعتذار مهما يكن سريعاً، يبقَ متأخراً. وصمة موحلة في الذاكرة، وجرح تفوح منه رائحة التسرّع والاستسلام إلى غريزة الغضب.
من أجل ذلك كلّه، من أجل كل الكلمات التي لم أقلها، لأنني لم أجد الشجاعة ولا القدرة على نطقها ولو متأخراً في زمن الغضب وما يليه من هذيان. من أجل كل الأشخاص الذين لمسوا براثن غضبي المتهوّر، في لحظة لم أكن فيها أنا من أنا، وبالحد الأقل ما أتمنى أن أكون... أعتذر.
http://www.annahar.com/content.php?priority=1&table=adab&type=adab&day=Sun
No comments:
Post a Comment