شارع الحمراء اسم تغنى به الشعراء، تنقلوا بين أرصفته كالطيور، التقطوا الابتسامات والدموع عن الوجوه، نثروها قصائد في كتبهم. ساعات قضوها على الأرصفة وأيام من العمر تركوها خلفهم على جنباته. شارع كتب عنه نزار قباني ومحمود درويش وغنّاه خالد الهبر. محطة للفنانين العالميين، ما قبل الحرب كان وجه لبنان الثقافي، استقطب الرسامين، الصحفيين والكتاب، عبق برائحة القهوة والأفكار الأدبية، الثورية والفلسفية
شارع يعانق الزحمة ويستمتع بصخب المارة، لاقتات معلّقة على الواجهات وباعة ينتظرون أمام العتبة يلقون على الزوار ابتسامات ودودة. بائع أزهار يلاحق المارة بين السيارات، يطاردهم بصوت جهوريّ، وعندما تصدّه إحدى الجميلات يقفز بسنواته الستين ويعلّق الوردة على الزجاج الأمامي للعربة، تخجل هي، تبحث في حقيبتها عن مال يبعده عنها ويقيها أنظار الموجودين حولها. صرّاف منزوٍ في دكان ضيق يكاد يلتصق بجسده، كتب معلّقة على حبال غسيل، مواقف سيارات تحوّل جزءٌ منها إلى مكتبة. محال لكل الأفكار وواجهات تمتص نظرات المارة من كل الأعمار، الطبقات، الجنسيات، والطوائف
شارع للمثقفين، للمتبضعين، للمصارف، للوزارات، للجمعيات الأهلية، للمدارس والجامعات، للكنائس والجوامع، للمطاعم والمقاهي، للحداثة والقديم. نوافذ خشبية خضراء تزهو بقدمها، صور تشي غيفارا مطبوعة على قمصان المراهقين، ملصقات على الجدران مكدّسة فوق بعضها، طبقات لا متناهية تتشارك فسحة صغيرة من حائط، دعوات لمهرجانات فنية، خطابات دينية وسياسية، مواقف جمعيات مدنية، ترتشفها نظرات المارة بنهم
شارع الحمراء الرئيسي في بيروت يتمدد بين شارعي المصارف وكاراكاس، يحمل في كنفه أكثر من وجه، تليق به شتى أنواع الحكايات، كل زائر يرى فيه صورة مختلفة ولكن الجميع يحبون التواجد على أرصفته. "لكم حمراؤكم ولي حمرائي" صرخة جديدة وفكرة مبتكرة. دعوة شبابية إلى محبي شارع الحمراء من أجل التعبير عن هذا الحب، كل كما يراه وبمنظار مختلف. الحدث عبارة عن مسابقة تصوير فوتوغرافي للشارع امتدت بين 22 تشرين الأول حتى 22 تشرين الثاني 2009، نظمتها شركة spread minds برعاية وزارة الثقافة من أجل إظهار الوجه الثقافي للشارع. الهدف الرئيسي من المسابقة سرقة اللحظات الهائمة في الشارع ونقل طابعه الخاص عبر عدسات المصوّرين هواة ومحترفين. لا شروط محددة للمشاركة، قدم المشتركون طلب الانتساب عبر الموقع الالكتروني الخاص بالحدث www.lihamra2i.com ومنهم من فضّل الحصول على الطلب من أحد المقاهي الراعية لهذا الحدث
التقط كل مشارك صوراً خاصة للشارع، جزءاً منه، أو أي مشهد فيه، بعدها اختار خمس صور قام بتظهيرها بقياس A3 ووضعها على قرص مدمج ليقدمها شخصياً إلى اللجنة. المشروع توزّع على عدة مراحل، 22 تشرين الثاني كانت المهلة الأخيرة لتقديم الأعمال، بعدها تم الإعلان عن أفضل خمسين صورة وعرضت في عدة مقاهٍ في شارع الحمراء. في 20 كانون الأول إختارت لجنة تحكيمية (مؤلفة من ممثلين عن تجار الشارع، ممثل عن وزارة الثقافة، رعاة المسابقة ومصوّرين محترفين) المراكز الخمسة الأولى. التصويت كان على ثلاث مراحل، نسبة 15% على موقع فايسبوك Facebook.com ، 10% تصويت في المقاهي الراعية للحدث وأخيراً 75% للجنة التحكيمية. ومن المقرر لاحقاً أن تُجمع الأعمال في كتاب مصوّر فاخر ينشر في بداية الربع الأول للعام 2010 ويحمل عنوان "لكم حمراؤكم ولي حمرائي"
وهكذا، في بداية العام الجديد سيكون لشارع الحمراء ذاكرة جماعية، شاركت فيها عيون مارة تشرّبت ملامح حياة تستحق التخليد
الساعة الخامسة مساءً من ليل 23 تشرين الأول، تجمّع عشرات الأشخاص من مختلف الأعمار في مقهى Franco Gelato، أحد رعاة المشروع ومقدّم الجائزة الأولى للمسابقة (بطاقتَي سفر إلى إيطاليا)، تحضروا بصمت، كل يعيد في مخيلته ترتيب الصور التي سيلتقطها بعد لحظات. أحاديث جانبية أشبه بالهمس في مجموعات صغيرة للتعارف. الوقوف أمام المقهى، تبادل ابتسامات وتمنيات مقتضبة بالتوفيق، تبعثر الجمع وانطلق كل مصور يبحث عن زاوية وفي داخل كل منهم أمنية الشهرة والربح
أمام أنظار الباعة والمارة، توزّع المصورون يلتقطون الصور، عدسات كبيرة وصغيرة، كاميرات محترفة وأخرى للهواة، وضعيات مختلفة وعيون تلمع شوقاً مع ومضات الفلاش. تحولوا كلهم إلى رسل يردّون على أسئلة الفضوليين، يشرحون بفرح عن الحدث وعن مشاريع مستقبلية لحفظ ذكريات الشارع في كتاب. عندما يحوّل أحدهم كاميرته مطارداً صورة اكتشفها، تلاحقه أنظار البقية بغيرة بريئة، ينتظرونه ليبتعد ويصورّون المشهد ذاته
في 20 كانون الأول من العام الماضي، اجتمعت اللجنة، المشاركون، المهتمون بالحدث والصحفيون في مقهى Franco Gelato للمرّة الثانية. عشرات الأشخاص تحلّقوا حول الصور المعلّقة على الجدران. ألوان وأراء جانبية، ابتسامات المصورين وعدسات متابعي الحدث، تعارف، لقاءات، مشروبات ورائحة قهوة، مكان واحد اختصر كل شارع الحمراء لساعتين
صاحب فكرة "لكم حمراؤكم ولي حمرائي"، محمد بدر أطلع الحضور على الصعوبات التي واجهتهم في جلسة التقييم، وأن اللجنة أمضت أكثر من خمس ساعات في مشاورات لاختيار الجوائز الخمس الأولى، وخاصة الوصول إلى رأي أخير بين الجائزة الأولى والثانية لأن الصورتين كانتا متقاربتين إلى حد التطابق من حيث الجمال. وأخيراً تم ترجيح كفة الصورة التي التقطها نور الأسعد لأنها تعبّر أكثر عن روحية شارع الحمراء
من يتأمل الصور المعروضة في هذا المقهى الإيطالي يشعر أنه سافر إلى كل ركن في شارع الحمراء بذاكرة تصويرية تستحق أن تدخل تاريخ هذه المنطقة. غريب كيف أن كل عدسة التقطت وجهاً مختلفاً لشارع يعبق برائحة الحياة
No comments:
Post a Comment