Sunday, 21 March 2010

رسالة إلى الموت


دعني أستهل كلمتي بأن أقول وبحزم الصواعق: "لست خائفاً منك أيها الموت".

طبعاً، لم أنس الزمن الذي عشته مذعوراً من فكرة زيارة خاطفة تفاجئني بها مبتسماً، وتحديداً في أولى سنوات العقد الثالث من عمري. لا أزال أذكر عدد الأقنعة التي نزعتها عن وجهك أحياناً "بمساعدة" الحذر، وطوراً بأظفاري، بفعل ما رأيت وسمعت.

خفت يومها أن تتنكر في شكل عتبة مكسورة على الدرج المؤدي إلى منزلي، أن تتسلل إلى صدري من خلال علب السجائر التي ترافقني، أن تستعير جسد سائق متهور، أو تعبث في تفاصيل جسدي فتزرع عطلاً طارئاً في صيرورته الطبيعية، وربما تستقل سفر رصاصة طائشة أطلقها ابتهاجاً أحد الأقزام بعد تصريح متلفز لسياسي ما، لتستقر في صدغي وتصيب مني مقتلاً مأسوياً. بعدها تتلهى بالحدث الجرائد لبضعة أيام تختصر حياتي، ويبقى هو مجهولاً ومجرد تابع أمين لك.





قد تسمني بمرض عضال موروث أو مستحدث، لكن في النهاية أعرف أنني سأتمدد داخل علبة خشبية مستأجرة. سأبتسم لأنني سأترك جسدي وبعضاً من الجمال طعاماً لمئات الديدان الجائعة.  أعرف أنني عشت عقداً من الزمن هارباً من أوهام أن تطأني قدماك وأنت تهرول في أزقة من بشر، تدوس أصدقاء، أقارب أو حتى أناساً لا أعرفهم وُجدوا لسبب ما حولي. ربما لا أعرف مقدار الدمع الذي ذرفته من مقلتيّ وجعاً على رحيلهم لكنني متيقن من أني كنت استطيع أن أغسل بعبراتي قدميك آلاف المرات... لا تحبباً أو استعطافاً، بل لمجرّد أن أزيل تلك الرائحة التي تخلّفها وراءك أينما حللت.

اليوم، لم أعد خائفاً منك، وأرجو منك أن لا تفهم هذه الرسالة دعوة عاجلة الى الانقضاض على جرأتي ومبارزة كلماتي بصمتك الجاف. أعلم أنك تفتقر إلى اللياقة والتهذيب، فأنت تأتي من دون موعد مسبق. ضيف ثقيل الظل تشبه فعل الولادة لكن بطريقة معكوسة. أعرف أنك والولادة عنوانا النهاية والبداية، والحياة ما بينكما.

نستقبل الولادة بالصراخ والبكاء، ومع الوقت نتعلم الضحك والسير، أما أنت فتصطاد رقماً من علبة زجاجية، كأنك توحي لباقي الملائكة بأن الامتياز مجرد مصادفة. نستقبل خبر النعي بالبكاء، نستعطف النسيان ليعيد إلينا ابتسامتنا، علّنا نمضي قدماً في ما تبقّى من حياتنا.

فيا صديقي، إن سمحت لي بمناداتك بهذا اللقب الذي اعتبرني أستحقه بعدما رافقني طيفك في سنيَّ العشر الماضية، أريد أن أطلب منك، وبكل تهذيب، أن تقلّد الحياة في أسلوبها وتُطلعني قبل تسعة أشهر من تشريفك. قد أطلب مهلة أطول أو أقصر، لكنني أحاول الحفاظ على جمالية التشابه وتناسقه. هو وقتٌ كافٍ لأودع من أحب. أن أكتب وصية دقيقة أترك فيها ما أملك فعلاً من متاع،  الى من أشاء. والأهم أن أنهي قصائدي المبتورة وقصصي المنتظرة نهايةً تليق بالوقت الذي اقتطعه القراء من أجل قراءة ما كتبت.

عذراً منك، فأنا أعرف مدى انهماكك ومثابرتك على عملك. أريد أن اقترح عليك أن تحضّر مسبقاً جدول زيارتك (طبعاً إن كنت قد وافقتني على مشروع الاتصال قبل المجيء) لتضعها عهدة في ذاكرة كومبيوتر، أو شركة اتصالات تهتم بإرسال الطلبات عبر رسائل قصيرة على الجوال أو على الكومبيوتر، مع إعادة الإرسال والتذكير كل ثلاثة أشهر وثلاث مرات في الأشهر الثلاثة الأخيرة، كما في الصورة الصوتية التي نجريها لمعرفة حالة المولود المنتظر. على ذكر هذه النقطة الأخيرة، من الجميل أن ترفق رسالتك مع ملاحظة صغيرة تفيد فيها عن كيفية الوفاة.

إن تبقّى لي الوقت في المهلة الممنوحة للاستعداد، فأظن أن من الممتع أن يختار المرء نعشه وفقاً لمزاجه وذوقه في هذا الوقت. قد أنتقي بذلة تليق بالتغيرات الحاصلة في جسدي، وأضع لائحة بالأشخاص الذي حان وقت الاعتذار منهم على تصرفات لم أظنها خاطئة في الماضي.

أريدك أن تفهم، لماذا بدأت رسالتي بـ"أنني لست خائفاً منك"، فقد خدعتك، وأرجو أن تعذرني مجدداً. جلّ ما أردته بهذه الحيلة الصغيرة أن استرعي انتباهك بكلمات جريئة ووقحة لتقرأ ما كتبت.
الحقيقة، كل الحقيقة، أنني خائف منك... 

الأحد 21 آذار 2010 - السنة 77 - العدد 23993

 نص

باسكال عساف 






http://www.annahar.com/content.php?priority=1&table=adab&type=adab&day=Sun



9 comments:

  1. هذا الموت يأتينا بأشكال تشبهنا، لا نملك شيئاً تجاهه إلا الخوف...

    تحياتي لك

    ReplyDelete
  2. "As a well-spent day brings happy sleep, so life well used brings happy death" (Leonardo da Vinci) - Even though this article is a good one to describe the ugliness and the bruteness of Death in a personified way, it shows the strength of death and the weakness of the humans, yet, you might be dead while you are living and that my dear Mr. Pascal is the death one should be afraid of, do you agree or what?

    ReplyDelete
  3. Well if u r a dead living person, you won't be feeling and of course not feeling afraid from ur status. Only those with big ambitions are worried about death, they just need time before willingly call for death.

    ReplyDelete
  4. Exactly!! I fear being dead while I am alive, rather than dying after i have lived a happy life.

    ReplyDelete
  5. To Sam,
    Living is measured by the amount of your ambition. and since u r afraid of being dead-living is the ultimate reality and the first step that you are alive. the question is what u'r gonna do next?

    ReplyDelete
  6. One more thing, ambitions sometimes can be crucial as well, one can be so focused on reaching his goals, fulfilling his ambitions that he forgets to live! Live your day as if it was your last and you will make miracles...

    ReplyDelete
  7. Dear pascal, I agree with your friend Samuel here, the thought of death will never stop an ambition person, actually it increases his motivation to win the race as you have mentioned in your article. Bottom line you are both right, and what matters most is while you are alive just live your life to the full, don't postpone to tomorrow what you can do today et voila, a happy life and happy death as Mr. Davinci said.

    ReplyDelete
  8. Then we, the three of us, agreed with Davinci let's live our lives happily.

    ReplyDelete
  9. "هذا الموت يأتينا بأشكال تشبهنا"

    أحببت هذه المقولة ليتني أضفتها إلى النص.
    شكراً على وقتك.

    ReplyDelete

Share

Widgets