Saturday, 27 March 2010

أحد الشعانين...








الإستيقاظ على عجل في صبيحة أحد لا يشبه سائر الآحاد. جفون مطبقة في صراع مع النعاس، تبحث عن رائحة القهوة. أصوات أولاد ارتدوا ثيابهم الجديدة منذ الصباح الباكر، عيونهم الصغيرة شاخصة إلى باب المدخل. يعيدون تكرار سؤال حائر في عقول متلهفة للخروج من المنزل: "متى نمشي؟". تتحايل على إصرارهم، لا يقبلون بالأجوبة المنسكبة من فاه أبٍ منشغل بارتشاف القهوة. تبعدهم عنك بلهجة صارمة: "بعد ربع ساعة". ينزوون في بقعة من غرفة الجلوس، تحت ناظريك، يحصون الدقائق بينما يتفرّسون بعينيك الناعستين. يتعبون من لعبة الانتظار، يسألون مجدداً، بعد مضي بضع دقائق... طويلة بالنسبة إليهم، وقصيرة الأمد بالنسبة إليك: "هل انتهت الربع ساعة؟". تبتلع القهوة، أو ما تبقّى منها على عجل، وتهرول إلى الحمام. البخار المتصاعد وجسد يفوح برائحة يوم آخر. وجهك في المرآة ولحية تحاول أن تحافظ على رسمٍ خطّه لك المزيّن البارحة. ينسلّ وراءك ابنك يستعير منك فرشاة الحلاقة، يصر على تغميسها في القدر الساخن. يقلّدك، يستعير من حركاتك كبراً ينثره على جسده الصغير رداءً فضفاضاً.









تختار من الخزانة بذلة رسمية، قديمة العهد ربما، ولكن أنيقة. لم يعد العيد موعداً للتباهي أمام أولاد الحي بثياب جديدة وحذاء يلمع. تنتقي أجمل ربطة عنق من مجموعة تهتم بها كهاوي جمع طوابع بريد. تفكّر في سرّك، اليوم أولادنا بهجة العيد.  الزوجة تسرق من الضوضاء دقائق معدودة لتكمل تبرجاً يزيدها جمالاً. إختارت أروع أثوابها، فاليوم عيد، والنساء في سباق خفي في ما بينهنّ. يظننّ أنه وفي كواليس الكنيسة لجنة ستختار أجملهنّ، وربما أكثرهنّ إغراءً، لتحوز بلقب إمرأة هذا العيد.









يتدافع الأولاد إلى داخل السيارة، تجلس الزوجة كأميرة على عرش في عربة ملكية. الزوج عينان تتحولان إلى امتداد للقيادة، تبحثان عن متهوّر مستعجل، تحاولان تلافي حادثٍ محتمل قد يصبغ ذكرى العيد بالندم وربما أكثر...


الإزدحام ظرفيّ، وتحديداً في محيط الكنائس. تحاول السيارات جاهدةً العبور بين أمواج البشر. تجمعات تشبه مظاهرات أدمن عليها اللبنانيون مؤخراً، ولكنها أقرب إلى عرض أزياء ضخم، إستبدلت فيه الرايات بشموع وبقيت الألوان. تأخر الوقت، سبقنا ببضع دقائق، يبحث السائق عن فسحة قريبة من الكنيسة ليركن فيها سيارته.


موظفو بلدية المنطقة منتشرون على تقاطع الطرق، يفترش التعب وجوههم. الجميع في حالة فوضى متفشّية. وحدهم، رجال في أزياء رسمية، يجاهدون لتنظيم حماسة الناس المستعجلة للإختلاط بالآخرين المنضوين تحت سقف الكنيسة. كلهم في سباق مع الزمن، اليوم عيد جليل لا يتكرّر إلا مرة كل عام.





تقف قي الباحة الفسيحة، الولوج إلى داخل الكنيسة أصبح ضرباً من المستحيلات، معظم الكراسي المصفوفة التقطها عجائز أمّوا المكان منذ ساعات الصباح الأولى، عندما كنت تستلذّ بفنجان قهوة مسروق من الوقت. تتفرّس في الوجوه المتناثرة حولك، تحولّت أنت أيضاً إلى جزء صغير في بحر من البشر. تبحث عن أصدقاء، عن أقارب، وجيرانٍ لم ترهم منذ حين لانشغالك بمتطلّبات الحياة اليومية. بستان واسع من الابتسامات، تقطف منها ما شئت، تزرعها في صدرك المنشرح. غبطةٌ أنانية، كلهم مسيحيّون هنا، الانتماء السياسي مكوّر بحياء في أعماقهم، الإختلاف في الرأي يقبع بصمت في داخلهم. لا كتائبي، لا عوني، ولا قوّاتي... كلهم مسيحيون هنا. ربّما تصاب في هذا اليوم بعمى الألوان، وربما معجزة إلهية، تخجل من تصنيف اللبنانيين ضمن تيارات وأحزاب من خلال ألوان ثيابهم ومقتنياتهم، أو ربما هذا ما تتمناه...


سلّة من قش تحملها امرأة عجوز تدور بها على المجتمعين، تسألك عيناها عن تبرّع يسير، البعض يتجاهلها، يفرّ من أمامها مصطنعاً الإهتمام بأمر آخر، منهم من يخجل من العطاء علانية، ومنهم من يفتّش "بضجّة" عن مال يسكبه بغرور، وبعض آخر يبحث بسكون بين رزمة صغيرة عمّا يستطيع أن يهبه، أن يشارك به متذكراّ فلس الأرملة.


أحاديث وقبلات، الجميع منهمك في طقوس العيد. اللحظات ومضات كاميرات رقمية حديثة. تغيير الوضعيات، حركات الوجه، الأولاد فوق الأكتاف، بين اليدين، وقوفاً بالقرب من السيقان، الزوج مرّة على اليمين ومرّة على اليسار، المهم إلتقاط أكبر عدد من الصور يحفظونها من غدر النسيان. صراخ أطفال ممتزج بضحكات آخرين يركضون بهستيريا طفولية في أرجاء الباحة. رجال تهرب من الضجة، تتمتّع بنهم بسيجارة مقتضبة. أولاد تخجل من حمل شمعة العيد المزيّنة، تحملها الأم على مضض تحت وطأة "عنادهم"، اليوم تذكّروا أنهم كبروا.. ونسوا البارحة كم تطلّبوا عند اختيار لون وطول الشمعة.








للمراهقات حصة في هذا الأحد، يتحوّلن إلى أشباه نساء، يتركن في البيت ثياب المدرسة، لونا الكحلى والأبيض مرفوضان وممنوعان في يوم العيد. التنورة القصيرة، الأزياء الضيقة، الكعب العالي، وضع ما تيسّر من علبة ماكياج الوالدة، وتصفيف الشعر... كلها أمور مباحة في العيد. سيلتقين الصديقات والأقارب، وتبدأ بينهن النظرات الفاحصة وعبارات الغنج المصطنع عن الإعجاب. الغيرة من أناقة إحداهن أو السخرية من ثياب رجعية لأخرى، شعور يتنكّر في جمل منمّقة. 


يتجمّع المراهقون على الحافات في مجموعات صغيرة... كل واحد يختار فتاة تليق به ولو إفتراضياً. شعرهم ما يميّزهم، تكمن فرادتهم في التسريحة العصرية بحسب آخر صيحات الموضة الغربية، وبضع أشرطة جلدية رفيعة يعلّقونها على معصمهم. الأزياء الرسمية لا تستهويهم، ثيابهم ينبغي أن تكون فضفاضة لإضفاء طابع الشاب "الكوول" على شخصيتهم.




هناك، في زاوية بعيدة من صخب العيد، ولد في العاشرة من عمره، مرتدياً ثياب الأيام العادية، يقف وراء صندوق كبير من الكرتون. أمامه خشبة طويلة زيّنها بألعاب متشابهة من مختلف الألوان. لعبة عبارة عن قصبة عُلّق في آخرها أربع نجوم صغيرة من الورق. في وسط الصليب المربعّ الذي يحمل النجوم صورة لبطل من أبطال مسلسلات الأطفال. يجرّ الأولاد والدهم ناحية البائع، اليوم عيد، كل أب يفكر بأنه لا يريد أن يشعر إبنه بالغيرة من ولد آخر يتباهى بلعبة "دولاب الهواء" مهما غلا سعرها. صوت الوالدة يتردّد في عقله بينما يحاول اللحاق بولده: "أنت سبب دلال الولد المفرط، لا تستطيع أن ترفض له طلباً". ينتقي الولد لوناً، يعود بعد ثوانٍ ليغيّره، يضيع في الإختيار، تجحظ عيناه بالصور، يصل أولاد يشاركونه الصراخ، بينما الآباء يبتسمون في ما بينهم. أحدهم يرمق البائع بنظرة عتاب قاسية، يخبره بأن اللعبة باهظة الثمن، يخجل الولد من ملاحظة الرجل. لمَ القساوة وثمنها ألفا ليرة لبنانية أي ما يضاهي سعر علبة سجائر؟ ألا يكفي بأنه يعمل في يوم أحد. يحاول الإفلات من نظراته الحاقدة من خلال الإهتمام بزبون آخر. يبتسم بفرح عندما يسمع صوت والد منبهاً إبنه، أن لا ينسى أخاه الصغير. تنظر إليه بعين دامعة، تعلّق في حلقك غصّة مرّة، كيف تبنى الأوطان، كيف يتغنّى السياسيون بالحفاظ على لبنان، وما تراه اليوم أمام بهجة مئات الأشخاص، ليس إلا عمالة أطفال مرفوضة في كل القيم الأخلاقية. تنصرف عنه، أنت وإبنك واللعبة، تلقي وجوده في هوة النكران، تشكر ربّك بأن دخلك المادي مهما تذمّرت من ضآلته، يعفيك من ظلمٍ بأن يكون إبنك هذا البائع الصغير.    


في الجهة المقابلة من "متجر" البائع الصغير، يقبع رجلٌ قي الأربعين من عمره يراقب بصمت قفصاً من قصب. حشر فيه على عجل عشرات الصيصان الملوّنة. تتأمله بفضول، تتذكّر طفولتك، والصوص الأول في حياتك، تتكوّن دمعة حسرة في مقلتك. يعيدك إلى الواقع أحد أطفالك، يشير بسبابته إلى القفص، تتذكّر والدك. تهزّ رأسك نافياً بصرامة. "لا" قاطعة، لن تشتري له هذا العيد صوصاً مرهوناً للموت بعد أقلّ من أسبوع. تقنع بحزنه، وبأسئلته الملحّة اليوم، تعرف أنك سترتاح من أسئلته لاحقاً. قرار سيريحك من شرح درس مبهم ومبكر عن الموت وأسبابه، عندما ستعود إلى البيت في بحر الأسبوع المقبل لتجد طفلك يهز الصوص بعصبية صارخاً بأنه قد "أطال النوم"... 





فجأة، تجتاح حركة غير اعتيادية المحتفلين في الباحة، يتدافع البعض لالتقاط سعف النخيل وأغصان الزيتون المباركة. يتقدم الحشد جمع من الكهنة، يصطفّ الناس وراءهم، ترافقهم أصوات تراتيل منبعثة من شاحنة قريبة. يستعدّ الرجال لحمل أولادهم فوق الأكتاف، تتحضّر النساء لالتقاط الصور. موظفو البلدية يقطعون الطرقات على عجل، وتبدأ المسيرة الإحتفالية، موجة عارمة من البشر تجوب الشوارع بنظام في الأمتار القليلة الأولى للإنطلاق. البحث بين الأشخاص المنتشرين عمن يحمل ولاّعة. ملصقات إعلانية لمرشحين في انتخابات مقبلة، تفترش الجدران، تنظر بامتعاض إلى الجمهرة، لا يافطات تذكرهم ولا عيون تلمحهم. صراخ الأولاد وشموع مرتجفة فوق الرؤوس. الأزقة الجانبية إغراء للبعض، يعبرونها في محاولة لاستباق المسيرة وملاقاتها في منتصف الطريق. المباني المحيطة صامتة، الشرفات شبه خالية، المحال مغلقة ما عدا قلّة منها وجدت في هذا اليوم فرصة ربح إضافي. التدافع طبيعي، وتجاهل الإعتذار عن قلّة الأخلاق طبيعي أيضاً. كعنقود عنب كبير، تنفرط الحبات رويداً رويداً، ترحل العائلات واحدة تلو الأخرى قبل وصول المسيرة إلى الكنيسة، قلّة تكمل رتبة القداس. ..



والآن، وقبل أن أنتهي من كتابة انطباعاتي، أبتسم، أتذكّر أنني لم أجد في ثنايا يومي المنصرم متسعاً من الوقت لأصلّي. إنجرفت كورقة عشب في مجرى نهر من البشر، نمارس تقاليدَ وطقوساً موروثة منذ الصغر. وأخيراً لا أملك أكثر من أن أتمنى للبنانيين في هذا العيد.. "شعنينة مباركة".









أحد الشعانين...
باسكال عسّاف ، الاربعاء 8 نيسان 2009

3 comments:

  1. it is one of the most wonderful description of the Palm day . my best regards

    ReplyDelete
  2. موضوع جميل فعلاً وأوافق رام على تعليقه

    تحياتي

    ReplyDelete
  3. Post Fresh Pics dude :D

    ReplyDelete

Share

Widgets