Wednesday 9 September 2009

كتاب






الصورة من فيلم الانيماشن "كافكا" للمخرج البولندي بيوتر دومالا.           
         الوقت رجل يسير ذهاباً وإياباً، يقلب الثواني الملتصقة بصفحات كتاب اشتراه من مكتبة تحيا في كنف مستشفى. السطور أمواج تتلاطم في فكره، بالكاد يلتقط أنفاساً متلعثمة ليرفع بصره ناحية الباب الموصد على من هم في رهان غير متكافىء مع الموت.


لا يعرف مدى المسافة التي أنهكت قدميه، ولا الفترة الزمنية التي انقضت منذ أن وجد نفسه حارساً على مدخل الأمل. الحقيقة الوحيدة الملموسة في دوامة الإنتظار تكمن في الصفحة التسعين، وكلّ ما عدا ذلك من صنع الأوهام. يترك إصبعه بين دفّتي الكتاب، يرخي ألم ذراعه في الهواء، ويمشي كصرخة مكتومة تندثر في ضوضاء اليأس.



مفتاح يتخبّط في القفل، الباب ينشقّ في منتصفه. تهبّ حركة رتيبة تخترق المعبر الذي يفصل بين من يخافون الحياة ومن يخشون الموت.


رأس متدلٍّ من جسد تغطيه شراشف بيضاء تفوح منها رائحة الأدوية. جفنان يتحدّيان إغراء مخدّر، ومقلتان تتحرّكان بصعوبة تبحثان عن مستقبل زائفٍ خارج سرير يعبر رواقاً من الرهبة.


ممرّض لا ملامح له، اعتاد جرّ عربات حديدية وما تحمله من أشلاء حياة. تصنّمت شفتاه، تلاشى بريق الإهتمام من عينيه، وجهه قطعة أخرى من رداء أبيض بات علامة تميّزه عن سائر الكائنات المذعورة على دربه.


الرجل يلقي نظرة فاحصة إلى المجهول الممدّد على فراش العبور، يخرج إصبعه ويكمل القراءة بفتور. الصفحة مئة وعشرون، لا يزال الوقت مبهماً، والمسافة وحش يكبر تحت وقع قدميه. وجع يقضم أسفل ظهره برتابة حقودة. المقياس الحقيقي للانتظار هو عدد الصفحات.


رأس آخر معلّق بجسم تلفّه عشوائياً شراشف شبه بيضاء تعبق بعبير مسحوق غسيل. جفون منسدلة بصمت، وأطراف أصابع بان منها بقايا طلاء أظافر أحمر. الإطارات السوداء الصغيرة تنزلق على البلاط الناصع بدلال.
ثانية واحدة على وجه المجهولة التى تحمل الرقم اثنين كانت كافية ليريح الرجل عينيه من عناء القراءة. لم يعد يذكر السطر الذي توقف عنده آنفاً، فاصطاد آخر وأكمل. لم يكترث، ربما كان السطر ذاته، أو الذي سبقه، أو حتى الذي سيليه. مجرّد سطر أسود في كتاب لا يذكر منه حتى عنوانه.


مئة وثلاثون صفحة انتقلت عنوةً إلى اليمين. إشارة صليب تحلّق فوق رأسه كنَسر وجد طريدة يسيل منها الخوف قطرات خائنة. تنتابه قشعريرة مباغتة، يفتّش، على مضض، عمّن ألقى عليه رذاذ المفاجأة. ينظر بعينين غائرتين من التعب إلى راهبة لم يستطع أن يميّز من وجهها أكثر من آثار ابتسامة في لحظتها الأخيرة. الموت هناك، خلف الباب، يقطف بعناية أعناق الأحياء كمن يجمع باقة من الأزهار لحبيبة، والملائكة هنا، تبتسم.


حفيف الورقة الأربعون بعد المئة، داسته عجلات العربة الثالثة. ممرّض يسحب وراءه فراغاً مستلقياً على سرير يتباهى بغطاء مرتّب. يتفرّس بشعر الرجل الأبيض المعتنق اللامبالاة. يحتار، أيتوقف الآن عن إحصاء الأشخاص ويشرع بتعداد الأسرّة؟


يغلق الكتاب ويستلذّ بطعم الحياة الذي تفشّى منذ خمس صفحات من أسفل ظهره إلى مؤخرة رقبته. يعلّق انعكاس وجهه على زجاج نافذة أخذوا مقبضها. الخارج شارع يتلوّى تحت أقدام سماء تبكي. يشعر بوجع الأرض من دون أن يسمع أنينها، تآمر الزجاج المقوّى عليهما. ولدان صغيران يجمعان المطر في راحتيهما، يعيدان رميه إلى الأعلى ويضحكان على جشع الجاذبية. يتركهما مبلّلين بعصارة السحاب، وينسحب.


الظمأ يخدش حلقه الجاف، يكوّر كتلة لعاب في أسفل شدقه، يبتلعها دفعة واحدة. يخدع عقله، أو هكذا خيّل إليه. إنبرى بعدها يطالع مقطعاً جديداً سيبقى جديداً بعد أن ينتهي من قراءته.


تتمرّغ الصفحة تلو الأخرى في العرق المتصبب من شقوق أصابعه. يحدج الخاتم في يده اليسرى بخاطرة لمعت فجأة كعود ثقاب في عالم شمسه تكاد تخبو. ماذا لو...؟ لم يجرؤ على تتمة سؤال جوابه مرساة استقرت في قاع أفكاره.


خان الوقت الإتفاق بينهما، ربما لم تنطلِ حيلة القراءة عليه. موعد انتهاء العملية تأخّر أكثر من سبعين صفحة.


السرير الرابع توطّد علاقةً بين الرجل وتكرار المرور. ولد في الرابعة عشرة من عمره تراه مستلقياً على جانبه، عاقد الساقين، ساجداً في ركعة أخيرة كالصخرة. تتلاشى الصور تباعاً كما ظهرت، تتساقط كأوراق الشجر وتختفي في الذاكرة. يفرك عينيه بمنظر الرواق الخالي، هلوسات الماضي تخترق الحاضر.


الصفحة الثالثة، عدائية الوجع وكذبة الصبر. يترنّح في مشيته التي باتت تشبه الرقص على الحبال. أوشك أن ينتهي من قراءة كامل الكتاب. يقترب من حافة الشباك، يتأمل مرور غيمة رمادية أمام جبين السماء، وينفث كلمة واحدة إلى أذن الله.


           السرير الرابع، عينان تبتسمان وثغر يلثم يد الحياة. الوقت رجل يعبر الرواق مرّة أخرى. وقبل أن يُقفل باب المصعد خلفه، يلتفت إلى الوراء، إلى حيث ترك الكتاب...


No comments:

Post a Comment

Share

Widgets