Sunday, 13 September 2009

اللبنانيون وذات الدواليب الأربعة

قل لي ماذا تقود أقل لكَ من أنت!

علاقة اللبناني بسيارته علاقة فريدة تتعدى حدود تملّك وسيلة مواصلات. هي أشبه ببطاقة تعريف اجتماعية، تحوّلت إلى مرآة تعكس الحالة المادية لصاحبها، أو قناع يخفي وراءه حالة متردية تغطّيها مشاركة أحد المصارف بملكية السيارة لسنوات خمس آتية. هي هوية، رمز لاستقلالية وتتمة لمنزل، يمضي بين جوانبها بضع ساعات يومياً، وهذا وقت كاف للتفكير في هموم الحياة وأخبار سياسيّي الوطن، للاستماع إلى الموسيقى، للتحادث على الهاتف النقال، أو ربما للتفنن بإلقاء اللوم على دولة يعتبرها مسؤولة عن وقته الضائع


بعد انخفاض سعر صرف الدولار أمام الأورو نتيجة الحرب الأميركية على العراق في عام 2001، توجهت أنظار التجار اللبنانيين إلى ما بعد الأطلسي، فعمدوا إلى استيراد السيارات من الولايات المتحدة بوتيرة أسرع. مهنة ما لبثت أن تفشت بين شرائح مختلفة من المجتمع اللبناني لتتحول إلى احتراف له قواعده الثابتة، وتالياً أسراره الدفينة التي تشكل حيزاً شاسعاً يفرّق بين أصحاب الضمير في البيع، وأولئك الذين يمتصون تعب المواطن حتى آخر رمق. نمت معارض السيارات كالطفيليات على جسد الوطن، وأصبح شراء سيارة واقتناؤها أشبه باستدراج لعنة تلازم الزبون فترة طويلة من عمره

برزت المكاتب التي تؤجر السيارات لتلبي حاجة ظهرت بعد انتهاء ما يُعرف بالحرب اللبنانية، وعودة المشتاقين إلى ربوع بلدٍ، ثروته بطيبة أهله. في المواسم السياحية في لبنان يندر الحصول على سيارة لاستئجارها، كمن يبحث عن قطرة ماء في صحراء. هي السيارة نفسها قد يستقلها الموت ليجلس بجانب متهوّر، فتفتقد الحياة بضعة أسماء. وعلى رغم إقرار إلزامية بوليصة تأمين السيارة ضد الغير، إلا أن "الحق العام" يرهب السائقين فيعمدون إلى الهرب تاركين وراءهم جسداً ملقى بين الحياة والموت، لتسجل الدعوى ضد مجهول.

يوميات لبناني في سيارة
طفل يتسلى فرحاً وراء مقود السيارة بينما والده يدخّن سيجارته. آخر يدخن نرجيلة. مجموعة أشخاص محشوّة في مقاعد خمسة. كلب نصفه خارج النافذة. استعمال إشارات الانعطاف بعد... الانعطاف. سيارات شاخت تلفظ أنفاسها الأخيرة دخاناً ساماً. دراجات نارية عارية من معظم هيكلها الخارجي. أضواء أمامية تعمي البصر. سيارة إسعاف تسيل في الزحمة كنهر غاضب يتعلّق بكل دقيقة قد تحمل أملاً لمريض مستلقٍ في الخلف، وراءها سيارة تتبعها كذيل نما فجأةً يستفيد من وجع الغير ليصل أسرع إلى وجهته. الفسحة الممتدة أمام السيارة إغراء للسائقين الآخرين لاحتلالها، عداوة بين غالبية السائقين وحزام أمان وجد لحمايتهم من جنونهم في الحد الأدنى، يتذكرونه فقط قبل بضعة أمتار من حاجز التفتيش. علامات "ممنوع الالتفاف" عند التقاطعات هي "للرجال فقط"، بينما النساء المختبئات خلف نظارات سوداء كبيرة يلقين ابتسامة واسعة لشرطي السير... وينعطفن.

الزحمة عالم آخر فيه يترجل أحدهم من سيارة ما ليقوم بدور شرطي السير، ينقذ سيارة صديقه من الانتظار، يدخلها على عجل تاركاً خلفه الزحمة نفسها، أقلّ بسيارة واحدة. لأصوات الأبواق عند اللبنانيين لغة أخرى، يعبرون فيها عن "انتبه، أنا أمرّ"، "يا جميلة أنظري في اتجاهي"، بين الشوارع الضيقة مناداة ودعوة الى شخص في داخل البيت للنزول، تحية مقتضبة لصديقة، وأخيراً صراخ غضب من قيادة آخر. مقهى صغير لشرب القهوة الصباحية، وبين بلادة الضوء الأحمر تطيب السيجارة وقراءة عناوين الجريدة والافتتاحيات. للنساء تتحول السيارة إلى امتداد لغرفة النوم، يحشرن وجوههن في المرآة الأمامية ويكملن تبرجاً ناقصاً، فالوقت لا يزال مناسباً لوضع أحمر الشفاه

دكاكين متنقلة في حقائب بين السيارات، أحدث أغاني المطربين، يانصيب، صحف ومجلات، أوانٍ مطبخية وأدوات كهربائية، حيوانات أليفة واسماك، عطور وحتى مياه ومرطبات، كلها بضائع برسم البيع خارج نافذة السيارة. يعرضها شبان من الجنسية السورية يزاحمهم شبان لبنانيون يستهلون كلماتهم بتعريف شخصي وبأنهم من طلاب الجامعة اللبنانية، فيلمسون عند بعض السائقين وتر الوطنية الرفيع ليتم البيع

سيارات أشبه بنوادٍ ليلة تصدح بأغان أجنبية أو عربية، تهتز الأرض تحتها، وترهق أعصاب سائر السائقين حولها. الموسيقى وسيلة لإطلاع فتاة جميلة في سيارة مجاورة بأن واضعها واسع الثقافة ويتقن أكثر من لغة أو بأنه مغرم متيم. كما من الممكن أن يتناهى إلى مسمعك أم كلثوم أو جورج وسوف عند ساعات الصباح المبكر، أغانٍ بلغات مختلفة كلماتها مخنوقة تحت وقع موسيقى صاخبة. أغانٍ مصنّفة وطنية، وما أكثر الفئات التي تغنّي لأوطان مختلفة بين أطياف شعب واحد. خطب سياسية جهورية تطالب بتحرير فلسطين، وتتغنى بعودة الجنوب وأخرى شعارها "لبنان أولاً"، وتبقى المقاومة منقسمة بين طرفين على الأحقية والأقدمية

أحاديث لا تنتهي، وهاتف ينقل السائق من زحمة إلى مقلب آخر، فينسلخ تدريجياً عن الواقع ليعود بعدها وعلى تكرار نفير السيارات المنتظرة في الخلفية، فينتبه الى أن الإشارة جحظ ضوؤها بلون أخضر، أو أن الطريق باتت سانحة.

كلها مشاهد لا ينقضي نهار من دون أن نلحظها ومن دون أن تأكل من أعصابنا المتعبة والموروثة من زمن الحرب.

أذواق ملوّنة
اللون الأسود هو سيد الألوان بلا منازع، يصاحب السيارات الألمانية الأكثر مبيعاً كالمرسيدس والـ "بي. ام. دبليو"، يليه الرمادي الذي يخدع تسلل الغبار إلى الهيكل، ليبقى الأبيض أقلّ الألوان حظاً لسرعة اتساخه وخدشه. كلّ فرد يريد سيارته الخاصة، المميزة، والمختلفة. فالشاب يريد ما يعبّر عن جيله، والفتاة تختار سيارة هادئة تعكس أنوثتها، أما النساء فاندفعن بشدة في الآونة الأخيرة إلى اقتناء الجيب، لمنظر خلاّب من فوق. يبقى الرجل، فإما يختار سيارة مريحة تليق بنوع عمله، وإما يبحث عن مركبة تتسع لأولاده الصغار وتفاصيلهم، مع ما يرافق قراره من التفكير في سعر صفيحة الوقود وجنونها. قلة من اللبنانيين تفكّر في أن تستقلّ سيّارة أجرة أو تلجأ إلى المواصلات العامة، لأنها لا تليق بمركزهم الاجتماعي مهما يكن بسيطاً، لذلك غالباً ما تعج هذه المواصلات بأشخاص من جنسيات شقيقة وبعض الفئات من طلاب الجامعة أو من يعيشون تحت الحد الأدنى.

الشباب اللبناني
عندما يطفئ الشاب اللبناني شمعته الثامنة عشرة يشعر بأنه قد أصبح ملك الاستقلالية. هدية هذا العيد لا بد أن تكون سيارة يقدّمها إليه والده كواجب حتمي واعتراف "موثّق" ببلوغ ابنه سن الرشد. لا يهم نوعها، فالسيارة الأولى لها نكهتها الخاصة، تماماً كرائحة أول فتاة عرفها. يغسلها كل أسبوع، يرافق بنظراته المياه المنسكبة على حديدها. يجمع جانباً الدمى المتناثرة في الخلفية، لكل دمية اسم، فهذه من صديق حملها إليه لمناسبة شراء السيارة، وهذه الوردة إعلان حب من صديقة، وهناك على الزجاج الأمامي لعبة تتراقص على وقع دوران عجلات العربة. تخال بعض السيارات محال مصغّرة لبيع الألعاب، تحوي ما يدهش من الألوان والقياسات. بعض الشبان يتركون على المقعد الخلفي غيتاراً (قيثارة) أو مجموعة من الكتب المنتقاة بعناية، فالطريق فرصة للتعرّف، والفتيات المنتظرات على أطراف الشوارع قد تتحول الواحدة منهن إلى صديقة مقرّبة، أو مغامرة طائشة، وربما زوجة مستقبلية وضعها القدر في حاضر لم يتقن بعد لعبة التخطيط.

السيارة جزء من هوية الشباب، نوعها، لونها، هيكلها، حتى داخلها عالم خاص يختاره الشاب تعبيراً عن شخصيته وإعلاناً واضحاً باختلافه عن سائر الأشخاص. يغيّر نوعها حالما تتغيّر حالته المادية. سيّارة أجمل تعكس مستواه الاجتماعي وبطاقة دخول إلى طبقة اجتماعية أرقى. كلّ لبناني مميز ومختلف عن أقرانه، وتالياً سيارته مثيلته. فهو يريدها مختلفة عن شبيهاتها، سيارة لها رونق خاص يميّزها. يهتم بها أكثر من أي مقتنيات أخرى، فهي رفيق دائم، من خلالها يتعرّف إلى الفتيات وفيها يستمع إلى موسيقاه المفضلة، يمضي الوقت، يتسكّع في الأزقة، يستعرض تفاصيلها المعدلة في الأماكن الشعبية، والأسواق المكتظة بالناس.

اللوحة اختيار صعب، قد يكتفي اللبناني بلوحة عادية ولكن آلاف الدولارات تصرف على لوحات من أرقام مميزة متسلسلة، أو تشبه رقم الهاتف الخاص بالسائق. هناك أرقام لها مكانة مميزة عند البعض كتاريخ ميلادهم، زفافهم، أو مناسبات أخرى. نوع من إظهار الذات عبر لوحة قد لا يلتفت إليها شرطيّ السير عندما يحرر مخالفة ما، ولكنها تبقى على رغم ذلك من أساسيات التمّيز.

تميّز السيارة عادة لبنانية
الألوان عند انتقاء السيارة عنصر جذب أساسي فهي تدلّ بشكل أو بآخر على عمر السائق. الألوان الترابية لها ذواقوها أما الألوان الربيعية فغالباً ما يختارها "الشببلكي" كالأحمر، الأصفر، وحديثاً البرتقالي الذي بات موضة في ذاته. بينما اللونان الأبيض والأسود ثابتان في كل المجموعات ولا يخسران رصيدهما

مقاعد السيارة من لون ونوع قماش تختلف بين سائق وآخر، فالمقاعد الجلديّة لها ناسها وكذلك الألوان، منهم من يبدل اللون الداخلي للمقاعد بما يتناسب مع ذوقه أو حاجته اليومية. بالإضافة إلى اكسسوارات خاصة يبتاعها السائق من محال زينة السيارات المنتشرة حول المعارض، ليتحول الداخل إلى غرفة جلوس. من المستحدث في كل السيارات الجديدة، المكان المحجوز لكوب القهوة الذي أصبح من المحفزات عند شراء السيارة. يشتري اللبناني علبتَي محارم، واحدة بخسة الثمن للاستعمال وأخرى باهظة، في علبة فاخرة توضع وراء الزجاج الخلفي للعرض أو للفت الانتباه. بالإضافة إلى علبة عطر تضفي رائحة مميزة في الداخل أو لتخفي رائحة الدخان من السيارة.

لا تزال السيارة من نوع الـ"بي أم دبليو" تحتل صدارة اهتمام الشباب، فهي متينة في الدرجة الأولى، سريعة و"تلبّيه" عندما يطلق العنان لجنونه. هي التي تقود السائق وليس العكس، أضف أيضاً الى أنها سيارة رياضية، ما يساعد في التباهي أمام الأصدقاء. وبعضهم يصدّق أنه عبر تعليق قرص مدمج فارغ فوق المرآة الرئيسية، يستطيع التشويش على أجهزة الرادار التي تلتقط السرعة.

في لبنان الحاجز العازل، المكوّن من زجاج مقوّى بطبقة قاتمة من النايلون الإضافي، يحتاج إلى رخصة، ما خلا السيارات التي تدخل هذه الميزة ضمن تصنيعها. التركيب في لبنان ليس متقناً، ولا يزال يمثل تحدياً للشباب وكأنهم يقصدون ذلك كنوع من تحدي السلطة. أصحاب المحال المختصة يستمرون بتركيبه مستفيدين من لهفة الشبّان عليه. تكلفته من مئتين إلى خمسمئة دولار أميركي. إنه من الضروريات الخصوصية، عازل تتكسر عليه نظرات الفضوليين عندما يكون السائق برفقة صديقة، علامة فارقة لسيارات السياسيين ومرافقيهم، وأخيراً تنبيه لمن يريد المغامرة، بأن السائق "مدعوم" أمنياً من جهة ما.

حجم الإطارات يتم التلاعب فيه أيضاً. تستبدل الإطارات الأصلية بأخرى أكبر تستعمل في الطرق الجبلية الوعرة، المهم أن تعكس التميّز. حتى الأضواء، التي تزيّن واجهة السيارة الأمامية، يتم العبث بها، تستخدم أضواء الـ"Xenon" المصنّعة لتحدّي الضباب والمناخ السيئ. في لبنان تتحول هذه الأضواء إلى أسلحة تفقد سائر السائقين أنظارهم وأعصابهم فيفسحون الطريق تلقائياً. التغيير في شكل السيارة يتم أيضاً عبر وضع أنوار خافتة أو قوية وجناح على مؤخرة السيارة. يضاف كذلك ما يعرف بالـ"شفرات" التي تعطي رونقاً رياضياً للسيارة، أما الدفاعات فلإبراز ضخامة السيارة وحجمها.

ولإضفاء نوع من الخصوصية والعلاقة الحميمة بين اللبناني وسيارته، يطلق عليها أسماء خاصة بها، مثل الغواصة والنملة والوطواط وأم عيون. يهتم الشباب بإجراء تعديلات على محرك السيارة ليصدر أصواتاً أشبه بالزمجرة. عند مرورها في الشارع، تخالها اخترقت صدرك. يعطيها دفعاً أقوى إلى حد قياس سرعتها بمقدار الجنون. تزوّد السيارة النيتروجين، وهو نوع من الغاز القابل للانفجار فتصبح "ملغومة". يستبدل المحرّك بآخر أكثر قوة فيصبح الهيكل صغيراً نسبة إلى حجم المحرك، ما يساعد السيارة على تخطي السرعة المطلوبة، وطبعاً تعريض صاحبها وحياة الآخرين إلى الخطر.

الإعلانات والرسائل
زجاج السيارة وخلفيتها، مساحات تتحول إلى لافتات إعلانية تتضمن رسائل متعددة الوجه. الزجاج الجانبي أو الخلفي فسحة مناسبة لإعلام الأشخاص المتناثرين على الطريق بأن السيارة برسم البيع وبأن باب التفاوض على السعر مفتوح على مصراعيه. سبحة ينتهي طرفها بكلمة الله وأخرى تحمل صليباً، كلمة الله، رسم السمكة... رموزٌ دينية تعلن للآخرين انتماء دينياً. صور الطوباويين والقديسين المستقبليين تذكيرٌ آخر باختلاف المواطن عن أخيه بطائفته. حذاء لدرء النحس معلّق تحت مؤخرة السيارة. إعلانات لشركات أصحاب السيارات، جملاً تتغنى بالسائق، أو بحبيبة. اسم سائقي سيارات "فورمولا واحد" وأعلام دول أجنبية. يحمل اللبناني صوره معه أينما ذهب، من بيته، إلى دفاتره الجامعية، إلى سيارته، وحتى في الدوائر الرسمية لا يخلو جدار من صورة تذكّر المواطن بسياسييه.

في السيارات تتغير الدوافع كثيراً. هناك الفنانون والشهداء، صور أقارب ماتوا كُتب تحت رسمهم عبارات مثل "لن ننساك". أما السياسة فلها حيّز واسع لأسباب عدة منها كثرة الساسة وتعدد الاتجاهات السياسية والحزبية وتغيّرها مع الوقت. نراها خصوصاً في فترات الاعتصام والذكرى السنوية لحادثة ما، في بلد أصبحت روزنامته تعج بشتى الأسباب. حتى مرض الألوان تفشّى في ديكور السيارات، أشرطة من كل الألوان، ولون لكل حزب. تعرف ميول السائق السياسية من اللون الطاغي على المقتنيات الداخلية. وأخيراً للرياضة مساحتها، المحلية والعالمية، من كرة القدم إلى كرة السلة، تتحوّل العربات إلى منصات تشجيع لفريق ما. في مباريات كرة القدم العالمية وخصوصاً في المونديال تستخدم الأنتينات الهوائية لتعليق أعلام الفرق الأجنبية، فلا تكاد تخلو سيارة من راية، وهي أيضاً من العلامات الفارقة للشخصيات الأمنية ولسيارات المرافقة.

اللبناني والموسيقى
تختلف أذواق اللبنانيين باختلاف أعمارهم وأهوائهم وحالاتهم النفسية. من الصعب جداً، أن تجد سيارة لم تتحول إلى مكتبة مصغّرة للأغاني، تضمّ في طياتها عشرات الأسطوانات في لغات ثلاث. العربية بكل لهجاتها، الفرنسية والإنكليزية، ومن دون أن نسقط أيضاً نسبة المستمعين إلى اللغة الأرمنية. رفيق درب في صراع متجدد يومياً مع الحياة. الأغاني البطيئة الإيقاع للرفقة الرومنطيقية، الروك، الراب، الهيب هوب، الهارد روك... أطياف تتماشى مع ثورة دفينة في أعماق الشبان تجد منفذاً صاخباً في داخل السيارة وخارجها. للموسيقى الكلاسيكية هواتها من الرجال وتحديداً الأغنياء منهم. والطرب له مكانة حميمة عند البعض

في بلد وقّع قانون حماية الملكية الفكرية، والذي تدخل الموسيقى ضمن نطاق عمله، لا يزال في مقدور اللبناني أن يفتح نافذة سيارته على تقاطع طريق رئيسي، ليشير إلى أحد الباعة من جنسيّة شقيقة، أن يعرض أمامه آخر أعمال الفنانين اللبنانيين، العرب والأجانب. يدخل بعدها المشتري في صراع مرير على السعر، جامعاً خلف سيارته أرتالاً من العربات المنتظرة. يعلو النفير والصراخ، ينطلق راضخاً في طريقه، من دون أن يشعر بخجل ومن دون أي إشارة من يده تختصر اعتذاراً مسهباً. يخلّف وراءه البائع مهرولاً لإتمام الصفقة عند التقاطع الثاني. يبلغ سعر الأسطوانة المقرصنة في حده الأقصى ثلاثة آلاف ويصل إلى الألف ليرة لبنانية، بينما سعر الأصلية بين عشرة وعشرين دولاراً.

هناك من يعتبر الراديو والأغاني في السيارة، كالعلكة، تصرف الوقت من دون إفادة، فيلجأ إلى الاستماع إلى شرائط وأسطوانات تتوزع بين مواضيع عن بناء الذات، كيف تصبح غنياً، فن البيع، وتعلم لغة إضافية... فتتحول السيارة إلى مدرسة تسير على أربع عجلات، والوقت إلى فرصة لتغذية ثقافتهم.

حتى أن التجهيزات الصوتية ضرورية لبعض الذين يقيمون حفلاتهم داخل هذه العربة وتصل تكلفتها إلى أكثر من ألفَي دولار لإضافة أجهزة مقوّية للصوت. تقنياً يضطر المهووسون بالأصوات الصاخبة إلى استحداث فجوة في الجهة الخلفية في سياراتهم حتى لا يتشظّى الزجاج الخلفي. بعض المعدات، وبسبب ضخامتها، تحتل معظم الصندوق الخلفي للسيارة. الصوت يجب أن يكون عالياً جداً حتى يسمعه أبناء الحي، إشارة الى مرورهم في الزقاق. من دون إغفال وجهة الاستخدام المستحدثة أخيراً لإسماع الخطب السياسية والأغاني الحزبية. من النوادر الطريفة، عندما يصرخ سائق مجاور لآخر حوّل سيارته إلى ناد راقص: "بكم تعريفة الدخول؟".


القيادة
معظم اللبنانيين يتجاهلون اللون الأحمر الصارخ في إشارة السير. ينطلقون بسرعة عابرين التقاطع والابتسامة تعلو شفاههم بخبث. سرقوا من القانون بضع لحظات. بالنسبة إليهم، تحدّي الخطر ذكاء. هم أنفسهم يتأكلهم الغيظ عندما تنقلب الأدوار بهم، فيتحولون إلى منتظرين لشخص "أخرق" عبر كالسهم عندما كانت إشارة السير الخضراء تدعوهم إلى الانطلاق. ينعتونه بأفظع الشتائم والألقاب، يعتبرون أنه، وبسبب هؤلاء "الحمقى"، لا يزال الوطن يخضع لشريعة الغاب.

في البلدان الراقية عندما يبلغ الإنسان سناً متقدّمة من العمر، يوضع في بيت للراحة ويعامَل باهتمام زائد. وحده لبنان يعيش نمطاً مختلفاً عن المسار الطبيعي للحياة. ففي لبنان رخصة القيادة أبدية، وهواية يزاولها الإنسان حتى آخر أيامه. الأخطر أولئك الذين بالكاد يرون أمامهم بوضوح، وعلى رغم ذلك نلتقي بهم، "يتمخترون" على أقصى اليسار بسرعة لا تتعدّى الثلاثين كيلومتراً في الساعة. يخطّون وراءهم سيلاً طويلاً من السيارات مصحوباً بصراخ سائقين يمزّقهم التأخّر.

القيادة في لبنان "قيادة استفزازية"، الجميع قي حالة تأخّر دائم، بعض السائقين لا يتورّع عن كسر كل القوانين لاختصار الزمن. من المشاهد المتكررة في الزحمة، سيارات رباعية الدفع تسير الخيلاء على الأرصفة. المزاحمة على المرور، تتحول إلى منافسة شرسة، وغالباً ما تنتهي باصطدام، وصراخ وتهديدات، تتوقف الحياة بعدها في انتظار مندوبي شركات التأمين. ويتحوّل المكان إلى بقعة "سياحية" تمرّ بجانبه السيارات لتتمعن بفضولية حادثاً ستنساه بعد لحظات بدلاً من أن يتحوّل إلى درس مستقبلي.     

يوميات السير، تكرار البارحة إلى ما لا نهاية: مزاجية السائقين، فمنهم من هو تحت السن القانونية، ومنهم من تخطاهم الزمن، وآخرون حصلوا على رخصة قيادة من دون أن يتمرسوا بفنها، إهمال عند بعضٍ من رجال الشرطة، وإشارات مرور تتسبب بزحمة مختلفة بألوانها فقط، حفريات، توسيع وترميم طرق... تشتدّ الزحمة، ينقلب مزاج السائق ويتحوّل إلى آلة هستيرية، حتى يمكنك قراءة الشتائم عن شفاه الصامت منهم، وعندما تخفّ الزحمة تتكاثر حوادث السير القاتلة وحياة أسر يأتيها الموت على غفلة

مهما حاولت وزارة الداخلية والبلديات تنبيه السائقين إلى الخطورة الكامنة في التحادث أثناء القيادة، إن من خلال إعلاناتها عبر الأثير والملصقات العملاقة على أطراف الطرق، أو حتى التحذيرات من غرامات مالية، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل وذلك لأن اللبنانيين باتوا يعتبرون أن الهاتف من ضرورات السير. يقتطعون من الوقت الضائع في الازدحام ويصرفونه أحاديث تتحدّى الانتظار. ينفصلون عن الواقع الممل، لتتحول بعدها دفة القيادة إلى الغريزة.

يتوق الرجال إلى عرض مفاتنهم وبراعتهم في القيادة وتحديداً أمام النساء. فالمرأة في نظرهم كائن لا يجيد القيادة، وغالباً ما يعتبرون أي عائق سببه امرأة أو رجل عجوز. الاثنان عنصر تأخير لبلد مسرع إلى اللامكان. تنتقص رجولتهم ويلحق بهم العار إلى آخر يومهم إذا تخطتهم امرأة. يهدر محرّك سيارتهم بوحشية، يتبعونها كنسر قارض وراء نعجة مذعورة. يقذفونها بأقذع العبارات والشتائم. هي المرأة نفسها التي تسترعي انتباههم إذا التقوا بها في طريقهم، يستنبطون كل حيلهم لينالوا ابتسامة عابرة. غريب في لبنان كيف يتحوّل الرجل المهذب إلى كائن آخر عندما يجلس وراء مقود السيارة. بعض سائقي سيارات "الجيب"، ينظرون بتعالٍ مدقع إلى السيارات الأخرى المتوقفة "تحتهم"، وكأن نوع السيارة امتياز يخوّلهم ممارسة فوقية وقحة على الباقين. المضحك، أن كثيراً من هؤلاء قصيرو القامة، ومنذ سنوات عدة أصبحت أعداد سيارات "الجيب" المرغوبة في أسواق البيع في ارتفاع مدهش، في بلد لم تتغيّر معالمه الجغرافية

حوادث الطرق  
يحكى أن تاريخ حوادث السير بدأ مع وقوع أول حادثة سير في العالم في لندن عام 1896. يومذاك أعلنت صحيفة لندنية أن ما حدث يجب أن لا يتكرر مما حمل منظمة الصحة العالمية على أن تدعو كل الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني لمعالجة هذا الموضوع. ولا تزال حتى اليوم في مواجهة غير متكافئة مع إرهاب الطرق الذي يذهب ضحيته أكثر من مليون و200 ألف قتيل سنوياً، أي بمعدل قتيل كل ثلاثين ثانية في العالم. وأشارت إحصاءات منظمة الصحة العالمية (WHO)، الى أن لبنان فقد في السنة المنصرمة أكثر من 870 قتيلاً في حوادث السير، وحصد أكثر من عشرة آلاف جريح

كل يوم تنشر الصحف أخباراً عن حوادث الطرق: شاب لم يدخل الجامعة بعد، يحضّر لزفاف لن يأتي، توفي البارحة بسبب حادث مروع. نتأثر ونحزن ثم نقود السيارة وننسى ما حدث، فالوجع لا يغدو بالنسبة إلى القارئ أكثر من حبر أسود في صحيفة

آخر الإحصاءات بلغت فيها أعداد قتلى حوادث السير أرقاماً مخيفة، 37 قتيلاً معدل شهري للقتلى، رقم مرادف لـ"موت غبّي". وقد أكدت هذه الإحصاءات أن 88 في المئة من الحوادث سببها السائق نفسه. أرقام لا تعبّر إلا عن فداحة الأمر: 10,630 حادثاً في عام 2008، فيما كانت 9,546 حادثاً في عام 2007، و8,115 في عام 2006.

تعددت الأسباب والموت واحد
الأسباب عديدة تبدأ بالحالة المزرية للطرق. حفر تكاد تشبه الأنفاق، شكوى مستمرة تتناقلها التقارير الإخبارية، بعضها تلوكه الألسن منذ عشرات الأعوام. يُطلب من السائق التقيد بإشارة تحديد السرعة لأن الطريق مزوّد راداراً وسيكون هناك غرامات للسرعة، إلا أنه يجهد نفسه بالبحث عن أي لافتة تحدد السرعة حتى لو كانت تعود إلى أيام الانتداب الفرنسي فلا يجدها في غالبية الطرق اللبنانية، وإذا وجدت فتكون غير ملائمة للطريق الذي غرزت إلى جانبه. الأخطاء الهندسية كثيرة، منعطفات حادة، أرض مائلة، لا بنى تحتية صالحة لتصريف المياه، وعندما يطل الشتاء تبكي طرقنا من الإهمال وتغرق السيارات في زحمة تقتل الوقت ببطء

أخطاء السائقين سبب مستقل، ما يكفي في ذاته لخلق كارثة يومية: سرعة زائدة، قيادة تحت تأثير الخمر، عدم احترام قانون السير، تجاوز السرعة المقررة والسيارات المتباطئة وعدم التقيد بأولويات المرور. انعطاف خاطئ وقوف مفاجئ، وسير بعكس الوجهة المحددة. أخطاء المشاة أفدح. على رغم أن الأماكن المخصصة لعبور المشاة قليلة الوجود نسبياً إلا أنها نادرة الاستخدام، فتراهم يعبرون كالقطط بين السيارات على الطرق السريعة... تحت أنظار جسر للمشاة يبعد عنهم بضعة أمتار.

قوانين تأخرت كثيراً
في عام 1991 أُقر بضرورة تأمين عديد كاف لقوى الأمن الداخلي لتنظيم السير، كان عبارة عن 47 ضابطاً و2250 فرداً. بعد مضي 18 عاماً، العديد لا يزال 20 ضابطاً و1343 فرداً. تنفيذ الخطة الموضوعة لمعالجة أزمة السير وسلامة المرور، لا بد من تأمين 500 فرد إضافي، وهذا ما يؤمل أن يحصل خلال الأشهر المقبلة بحسب وزير الداخلية. ستحمل هذه المجموعة الأمنية اسم "المجموعة الجوّالة"، مزودة دراجات نارية لمطاردة المخلّين بالأمن، إضافةً إلى استفادتها من الرادارات وأجهزة التعقب

قانون السير في لبنان يعود إلى عام 1967، أما أحزمة الوقاية فتزيد نسبة النجاة من حوادث السير بمقدار 60 في المئة وتحمي بنسبة 50 في المئة. ستون في المئة من الحوادث تحصل بسرعة تفوق الـ 50 كلم بالساعة. عشرات الآلاف من إجازات القيادة تمنح سنوياً بينما نسبة الرسوب في امتحانات القيادة شبه معدومة في لبنان.

الحملة الأخيرة لوزارة الداخلية عن ضرورة احتفاظ كل سيارة بإطفائية، ولولا التهديد بغرامة مالية لما تدافع اللبنانيون إلى اقتنائها، حتى علت صرخة الباعة أن المحال فقدت مخزونها طالبةً مهلة إضافية لانتظار وصول شحنة جديدة. مواطنون يهتمون بسلامة أمنهم فقط بعد التهديد، ربما "لأن اللبناني لا يفهم إلا بالبهدلة"... 
عند وقوع الحادث ينتاب الجميع الفضول فيتوقفون لمعرفة ما حصل، يعاينون السيارة بنظراتهم وعبارة "الله يشفق" ثم ينتقلون فوراً للتحدث عن ثمن السيارة البالغ عشرات الآلاف. عندما تدعو الجهات المختصة المواطنين إلى تسوية أوضاعهم القانونية على مستوى سياراتهم وأحزمة الأمان ودفع رسوم الميكانيك وتغيير اللوحات، تعلو الصرخة عند الجميع، وعندما يطرق الموت بابهم ينتفضون لإلقاء المسؤولية على الدولة

أزمة عالمية بعيداً من لبنان
لم يتأثر قطاع مبيع السيارات في لبنان بسبب الأزمة المالية العالمية، بل ظلت نسبة المبيعات في مسارها الطبيعي حتى أنها زادت وفاقت التوقعات. اللافتات الإعلانية لا تزال في انتشار مستمر لمختلف العلامات التجارية من السيارات. عروض توفرها شركات الاستيراد: الشراء من دون دفعة أولى، الوكالة تتحمل تكاليف التسجيل والتأمين. مبيعات الشهرين الأولين من العام الجاري ارتفعت بنسبة 12.7  في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وتصدرت السيارات اليابانية طليعة المبيعات بنسبة 47.2 في المئة، تبعتها الأوروبية بـ29.2 في المئة

معارض السيارات المستوردة 
مساحة تتناسب مع المبلغ المستثمر لتكديس السيارات المستوردة من الخارج أو المودعة من أشخاص يريدون الاستفادة من اسم المعرض. سياج يفصل العقار عن شارع يضج بالحياة. عامل أجنبي يهتم بغسل السيارات في النهار ويتولى الحراسة ليلاً. هذه متطلبات المهنة، أما الخبرة فغير ضرورية. كل ما يحتاج إليه التاجر هو فصاحة اللسان وحب الكلام، أو الـ"رغي" كما يقال في العامية. أما قانونياً فيفترض الحصول على رخصة لبيع السيّارات، لكن كثيرين لا يصرّحون عن مزاولة العمل طمعاً بكل فرصة ربح

في قانون الجمرك اللبناني لاستيراد السيارات، لا يمكن شحن سيارات يعود تاريخ صنعها إلى أكثر من ثماني سنوات إلى الوراء. على التاجر أن يغطي نفقات شركة الشحن فيحصل على إذن بتسلم بضاعته. بعد دفع رسم الجمرك المستوجب عليه، والذي تفرضه الدولة بالليرة اللبنانية عبر حوالة مضمونة من مصرف لبنان، يستعين التاجر بشاحنات قطر لنقل السيارات إلى المعرض لأنها لا تكون قد سُجلت بعد في مصلحة تسجيل السيارات والآليات (النافعة). 

معظم معارض السيارات يتعاون مع أحد البنوك لتقديم تسهيلات من خلال جدولة سعر السيارة على دفعات. على الشاري تأمين ثلث سعر المبيع، وبعض الأوراق المطلوبة لموافقة المصرف على القرض. القسط الشهري لا يتعدّى ثلث الراتب، يدفع في موعد محدد من كل شهر، لمدة بين ثلاث وخمس سنوات، ويُفرض على الزبون تأمين العربة ضدّ كل الأخطار (All Risk) بكلفة مركّبة من نسبة مئوية من إجمالي سعر السيّارة، وتختلف بين شركة تأمين وأخرى. التعاون بين المعارض والمصارف لا يصب فقط في مصلحة الشاري بل يتعداه إلى عمولة 7 في المئة من إجمالي سعر السيّارة المستدان تصل بعد أسبوعين إلى حساب التاجر.

رحلة السيارات من أميركا إلى لبنان
"المزاد الأميركي للسيّارات"  (AAA: American Auto Auction) من أهم الشركات الأميركية المنظمة للمعارض. ثمة أكثر من مزاد في الولاية الواحدة، وتشرف عليه شركات كبرى تتقاسم أيام الأسبوع. بعضها يسمح للجميع تجاراً أو عموماً بالمشاركة فيه، ومنها تلك التي لا تتعامل إلا مع تجار معتمدين لدى الدولة. أرض شاسعة تصطفّ فيها السيّارات بالآلاف في خطوط يحمل كل منها حرفاً من أحرف الأبجدية. وتقسّم الخطوط بحسب مصدرها: خط للشركات المعروفة، آخر لسيّارات الأفراد، وأخيراً خط للسيارات المرهونة لعدم تسديد أقساطها.

مشهد بشري متحرك جميع من فيه يتحضّر لبدء موسم صيد يُفتتح عند الساعة العاشرة صباحاً. كل سيّارة تعرض على حدة لترتفع الأيدي ويعلو الصراخ، فتتحول العربة فريسة مكتنزة في عالم جائع. في بعض الأحيان يرتفع سعر المراهنة على السيارة إلى ألفي دولار في خلال نصف دقيقة. معظمهم يحمل في جيبه كتيباً يشبه القاموس، بين صفحاته يجدون آخر أسعار السيارات بحسب سنة الصنع. السيارات التي يواجه العامل مشاكل تقنية في قيادتها، تقطر إلى الفسحة، وتفقد من ثمنها على رغم أن المشكلة فيها قد تكون بسيطة. المزاد من الأمكنة القليلة المتبقية في الولايات المتحدة التي لم يمنع فيها التدخين، فتشعر أن الموجودين يشعلون سجائرهم بنهم وكأنهم ينتقمون من قرار المنع. يغص المزاد بالنساء، في أميركا لا يوجد عالم للرجال فقط. هنا لا بد أن تقابل شرطية سير، سائقة عربة، وحتى وكيلة معرض.

اللبنانيون كثر، يعرفون بعضهم بالأسماء، يبتسمون في الخارج وينقضّون على بعضهم في الداخل كالأعداء، ما عدا قلة منهم تتفق مسبقاً، وقبل بدء المزايدة يتغامزون بمكر. عباراتهم المعسولة حملوها معهم من الوطن: "تركلي هالسيارة، بتركلك هاي. كلنا ع حسابك وبأمرك، تكرم وبتمون". يتباحثون في ما بينهم كالعصابات، يسألون عن مذهب تاجر جديد ظهر فجأة في مملكتهم، فالأسماء هنا تتقنّع بأخرى أجنبية ويصعب تقصّي أصلها من غير معرفة مسبقة، أو عبر محاولة استدلال بائسة عن اسم القرية التي ولد فيها أو من خلال مكان السكن الحالي. غالباً ما يتجمهرون حول السيارات نفسها، فالسيارات المرغوبة وخصوصاً الألمانية منها هي ذاتها المطلوبة في لبنان، إن من حيث الموديل، أو الذوق اللبناني، وحتى سنوات التصنيع المسموح بشحنها إلى لبنان.    

أكثر من ألفي شخص يتحرّكون كالنمل، ثيابهم عادية، يحملون أكواب القهوة، يلتهمون الـ"هوت دوغ" بنَهم ليسيل الخردل على أصابعهم بعدها. يبتسمون لكل من تلتقي به عيونهم، وإذا حدث أن لمسك أحدهم بالمصادفة، مهما كانت الملامسة طفيفة، يعود أدراجه ليعتذر.

على ضفّتي الخط المحدد، تمرّ السيّارة كعارضة أزياء يراقبها من بعد دلاّل تعاونه امرأتان ورجل يسجّل على شاشة الكومبيوتر سعر المبيع ورقم الوكيل، لتعرض بعدها المعلومات عن السيّارة: النموذج، سنة الصنع، عدد الأميال، والأعطال الموجودة. إعادة السيارة مشروطة بوجود عطل فادح لم يُذكر على الشاشة أو بتأخر وصول سند الملكية في البريد لأكثر من شهر. المراهنة قد تكون صاخبة كما تكون هادئة، يحني التاجر رأسه في إيماءة مقتضبة في دلالة على رفع الرهان، كما ينسحب بكل سكون عندما يتخطى سعر الرهان الرقم الذي حدده سابقاً، ومن دون أن يتكلّم يخلي ساحة المعركة وينتظر فرصة أحرى.

الشحن إلى لبنان
تُشحن كل أربع سيّارات في حاوية على متن باخرة إلى مرفأ بيروت. كلّ سيّارة آتية من الولايات المتحدة الأميركية تحمل رمزاً من سبعة عشر رقماً يلصق أسفل الزجاج الأمامي، أو على طرف الكرسي بجانب السائق، وإن لم ينوجد فذلك يعني أن التاجر أزاله لسبب ما، فهذا الرقم  (Vin Number: Vehicle Identification Number) تابع لقاعدة بيانية تشمل تاريخ أكثر من خمسة مليارات سيّارة منذ وضعها في السير. ويمكن أن يعرف من خلاله سجلّ مالكي السيارة، والأعطال التي طرأت عليها، وعدّاد الأميال التي قطعتها، وحتى وجهة استعمالها، شخصية أكانت أم مستأجرة.  بعض التجار يشتري سيّارات محطّمة لسعرها الزهيد ويقوم بإصلاحها أو حتى جمعها من دون الاهتمام بالسلامة العامة لتتحول إلى صفقة مربحة

من الوسائل الأخرى المعتمدة لاستيراد السيّارات، عقد الصفقة عبر مواقع إلكترونية متخصّصة تسمح للتاجر بتصفّح الصور والمعلومات التقنية عن السيّارة. فيسدد القسط بواسطة بطاقة ائتمان، أو بتحويل المبلغ المطلوب عبر البنك، أو شركة تحويل أموال عالمية. وسيلة لا تحتاج الى خبرة واسعة من التاجر لكنها محمّلة أخطاراً وعيوباً لا تظهر في الصور المعروضة

شركات السيارات الجديدة 
تحتلّ الشركات الأوروبية الباهظة الثمن مرتبة أولى من حيث الجودة والنوعية لكنها تبقى حكراً على أغنياء البلد وشركات تأجير السيارات. أما الشركات الكورية الزهيدة الثمن فلا تستهوي الشباب الذي يلهث وراء الصناعة الألمانية بشكل خاص. يفضل الشاري المعرض لأسباب عدة، فالتسليم هنا فوريّ كمن يتبضع من السوبرماركت ولا يحتاج إلى أسابيع بسبب معاملات الشركات. السيارة الجديدة تفقد قيمتها بعد سنتين من الاستهلاك، وفي كثير من الأحيان لا تتوافر كل الألوان، ناهيك بالإعلانات الضخمة التي تستقطب الأنظار بجمل مغرية مكتوبة بأحرف كبيرة، وفي أسفل اللوحة يذكر أنه من دون القيمة المضافة. إعلانات مفبركة تخفي أحرفا صغيرة أشبه بلطخة تبشّر بأن البنزين "ببلاش" لـ "12000 كلم" فقط لا غير. هذا عدا ما يُكشف في صالات العرض، مثل أن ناقل الحركة أو الزجاج في السيّارة يدوي وليس أوتوماتيكياً، ليضاهي سعر الزوائد المضافة تكلفة السعر المسوّق في الإعلانات.

الميكانيكي بين التاجر والزبون
الميكانيكي هو الملجأ الأخير بعد زيارات عائلية كثيرة يقوم بها الشاري لتفحّص "عروسه" الجديدة والتدقيق في تفاصيلها قبل اتخاذ القرار الحاسم. الميكانيكي عادةً موضع ثقة الزبون وخشية التاجر، فالشاري قد يصبح زبوناً دائماً وأعطال السيّارة مصدر رزق له. يصل الشاري متسلّحاً بميكانيكي يختاره من منطقة بعيدة عن موقع المعرض، وعند تفحّص الهيكل يقبع الشاري منتظراً على أحرّ من الجمر كأنه أمام غرفة عمليات جراحية. وفي لحظة هاربة من الرقابة يعرض الميكانيكي ضميره بسعر يناسب التاجر ويحجز "حلوينة" يقبضها إن تمت الصفقة

لعبة لا بد أن تكون رابحة. فالتاجر غالباً ما يقبل بعرض سيؤدي إلى "بيعة". عندذاك، يسترسل الميكانيكي في الإشادة بمحاسن السيّارة مقللاً من أهمية بعض الأعطال الصغيرة. عند امتناع التاجر عن الدخول في هذه اللعبة، تبدأ رحلة الكشف عن مشاكل "خطيرة" تلملم إعجاب الشاري بالسيّارة فيخرج مسرعاً من ورطة كادت أن تكلّفه كثيراً. مرات كثيرة يرضخ فيها التجار لتهديدات الميكانيكيين حتى لو كانت السيّارة في حالة عظيمة. في اليوم التالي يزور الميكانيكي المعرض لجباية خوّة فرضها على التاجر قبل تسلّم المبلغ كاملاً
وإذا أراد الشاري أن يأخذ السيارة في جولة إلى ميكانيكي، يرسل التاجر أحد موظفيه برفقة الشاري. يقبل التاجر سائلاً عن اسم الميكانيكي، ويسارع إلى الاتصال به سرّاً، فالتاجر تعوّد على هذه الطلبات فبات على اتفاق مع غالبية ميكانيكيي المنطقة. من الخدع التي يلجأ إليها التجار، استبدال زيت المحرّك بزيت ناقل السرعة لخفت صوت المحرّك. خدعة لا يكتشفها إلا الميكانيكي، وتكلفة تصليح محرّك كهذا، لا تقل عن أربعمئة دولار

بعض المعارض تشتري سيارات مستعملة، وعند تجديد سيارته القديمة يقوم الشاري باستبدالها بأخرى من المعرض. يشتري التاجر القديمة بثمن بخس إذا تمكن من ذلك أو يضيف على سعرها المطروح في السوق بضع مئات من الدولارات إذا كانت العملية مربحة أو إذا كانت السيارة المبيعة تخفي عطلاً فادحاً. أما إذا سأل الزبون عن معلومات مفصّلة كنوع السيارة وتاريخ صنعها، فيعرف التاجر أن الرجل اشترى مسبقاً وهو مهتم بمعرفة السعر ليس إلا، فيطلب سعراً زهيداً ويتأمل غضب سائل يحاول عبثاً إخفاء غبن تمكّن منه

تأجير السيارات
السيارات المستأجرة موضة شائعة في الموسم الصيفي الذي يخيّم على لبنان. لا بد للسائح من أن يستأجر سيارة في بلد يعاني من أزمة مواصلات رسمية، ومن المستحسن أن يكون المحرك صغيراً وأقل استهلاكاً للوقود نظراً الى ارتفاع أسعار النفط. مليون ونصف مليون هو عدد زائري لبنان خلال موسم السياحة حتى الآن، وحوالى 300 ألف سيارة أجنبية دخلت لبنان خلال الفترة نفسها. صاحب رأس المال يتجه إلى شركة سيارات ويختار مجموعة متشابهة إلى حد ما وتتكفل الشركة اختيار البنك وتهتم بالمعاملات. غالباً ما تكون الصفقة الهيكل الأحدث والأكثر توفيراً، نوع واحد بألوان عدة.  

بدل استئجار السيارة الصغيرة بين 25-30 دولاراً لليوم الواحد أما الجيب والمرسيدس فتختلف التسعيرة وقد تصل إلى 100 دولار في اليوم، منها ما قد يتعدى الـ 300 دولار.

شركات التأجير تعاني من مضاربات أصحاب النمر البيضاء. يستطيع أيّ شخص أن يؤجر سيارته بوكالة سوق، وهنا يأتي دور الدولة الغائبة عن هذه الرقابة أو المحاسبة، فالعملية تتم بين صاحب السيارة والمستأجر من دون فرض غرامة أو إيداع مبلغ خاص في حال تضرر السيارة. وفي الوقت الذي يدفع فيه أصحاب الشركات القانونية 33 في المئة ضريبة للدولة، يتهرب أصحاب السيارات الخاصة من ذلك

الألعاب الذهنية في السيارات
الوقت الضائع وراء المقود خلق لدى بعضهم طرقاً مبتكرة للتسلية، فابتكر ألعاباً تساعده في تمضية الملل. جمع أرقام لوحات السيارات رياضة ذهنية، والبحث عن المجموع الأكبر والأصغر بينها. بالإضافة إلى إحصاء عدد السيارات التي تتجاوز السائق، والطرح من الحصيلة تلك التي يتجاوزها هو.  

... ماذا بعد؟

قل لي ماذا تقود أقل لكَ من أنت! ¶


باسكال عسّاف     


No comments:

Post a Comment

Share

Widgets