ما إن تدخل الباحة الخلفية للـ "معهد الألماني للأبحاث الشرقية"، حتى تشعر بعبق الماضي في الزوايا، تقف حائراً، متأملاً، ساكناً أمام رونق وجمال البقعة التي وصلت إليها. بقعة تختبئ في جانب منزوٍ من شارع في منطقة "زقاق البلاط" يشبه كل شوارع بيروت الضيقة...
اختيار مكان اللقاء من قبل القيّمين على مشروع "من الأبجدية الفينيقية إلى النهضة: مسيرات ووجوه بارزة" ليس صدفة عابرة، ما يعرف اليوم بالـ "معهد الألماني" منذ عام 1963، كان سابقاً قصر "آل فرج الله"، أحد أقدم الأبنية في المنطقة، شاهدٌ صامت على التاريخ منذ أكثر من 150 سنة.
الموعد كان نهار الأربعاء الواقع في 22 تموز 2009 في تمام الساعة الخامسة والنصف. بدأ المدعوون بالوفود قبل الوقت، استقبلتهم مجموعة من الشابات كنّ في الانتظار وعلى وجوههن الابتسامة المرحّبة نفسها. استلموا كتيّب "زقاق البلاط: دروب وشخصيات"، وللصحافيين جُهّزت حقيبة تحتوي على ملف يضم تاريخ المشروع... ومستقبله.
أشجار الصنوبر تظلل الباحة بهدوء ساحر، الانتظار والأحاديث الجانبية، غناء العصافير وتساقط أوراق الشجر، مشهد يذكّر الحاضر بماضيه، يوم كان المنزل في بدايات القرن العشرين يستضيف الطبقة الأرستقراطية المترفة، من سياسيين، دبلوماسيين، ومثقفي تلك الحقبة في الباحة ذاتها أو ما يسمى بالـ "الصالون السياسي".
انصرف معظم المدعوين إلى تصفح الكتيّب والأوراق وكأنهم يستعدون لامتحان قريب. في زاوية مسقوفة وضعت شاشة عملاقة، تجمهر حولها بعض المسنين يتأملون صور أبنية من "زقاق البلاط"، منها ما محته الحرب أو مشاريع إعادة الإعمار، وأخرى لا تزال موجودة، تنتظر على مضض حكم الإعدام المؤجل.
يهدف المشروع الذي وُضع بالتعاون مع وزارة الثقافة، والذي يتم تقديمه في إطار "بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009"، إلى الترميم المدني لمنطقة "زقاق البلاط" من خلال الثقافة. وبالاشتراك مع "مجال" المرصد الجامعي للإعمار والتخطيط المستدام في جامعة ألبا، معهد التخطيط المدني في جامعة البلمند، قسم الجغرافيا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القديس يوسف، شركة "برومان"، و"مؤسسة سينما لبنان".
أهمية الحدث تكمن في إعادة اكتشاف تراث "زقاق البلاط" المهدد بالزوال، والمعروف اليوم بـ"شارع أمين بيهم"، من خلال الشخصيات التي سكنت ونشطت في المنطقة، وأدت دوراً أساسياً في تطوير وانتشار النهضة. المعلم بطرس البستاني، الشيخ ناصيف اليازجي، حسين بيهم، الشيخ عبد القادر قباني، بعض من المتعلمين الهامين والكتاب في نهاية العهد العثماني الذين سكنوا وساهموا في إحياء الأدب العربي...
المشروع جاء نتيجة توصيات مشروع "أرخميدس" الذي بدأ في العام 2006 بهدف إعادة إحياء المدن، تعزيز التنمية المستدامة في منطقة المتوسط، تحفيز المجتمع المدني، وتسليط الضوء على الإرث المعماري - الثقافي. وهو يأتي في إطار برنامج "ميدباكت" الممول من الإتحاد الأوروبي، وبالتعاون مع مدن البندقية وجنوى الإيطاليتين، بوردو الفرنسية، إسطنبول التركية، ووهران الجزائرية.
تمثل الحضور الرسمي بالنواب نبيل دو فريج، ميشال فرعون، وهاني قبيسي، رئيس جامعة القديس يوسف رينيه شاموسي اليسوعي، عميد الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة جورج حداد، مدير المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ستفان ليدر، نائب مدير "موباتي لبنان" ماري كلود بيطار، مدير المرصد الجامعي للإعمار وإعادة الاعمار في لبنان سيرج يازجي، أعضاء من بلدية بيروت وممثلين للمؤسسات الثقافية والمجتمع المدني.
سبق الجولة عرض فيلم موجز عن المشروع والمنطقة وكلمات لكل من رئيس جامعة القديس يوسف البروفسور رينيه شاموسي، مدير المرصد الجامعي للإعمار وإعادة الإعمار في لبنان سيرج يازجي، منسقة اللجنة العلمية للأبحاث في كلية الآداب العلوم الإنسانية ومسؤولة "قسم التنسيق السياحي والثقافي" في الجامعة اليسوعية د. ليليان بركات.
ألقى رئيس جامعة القديس يوسف البروفسور "رينه شاموسي" كلمة شكر فيها "كل الذين ساهموا في إنجاز المشروع". الذي "يعتبر تطبيق ما تم حبكه في هذا الحي المحمل بماضٍ ثقافي لا يلغيه الدمار ولا اعادة الإعمار". عدد أسباب أهمية الحي "لأن لبنان لا يمكن أن يحيا ويتخطى الاضطرابات التي يشهدها إن لم يعتمد على ذاكرته وعلى ذكريات تلك الأزمنة التي عمل خلالها الرجال والنساء، لا سيما في القرن التاسع عشر، لبناء مستقبلهم". وأن المشروع "يتيح أمامنا تقديم صورة مختلفة عن لبنان إلى العالم، صورة مغايرة عن الدمار والعنف".
تحدث مدير المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ستفان ليدر، عن أهمية التراث الثقافي والتاريخي في بيروت، مهنئاً كل الذين شاركوا في إطلاق هذا المشروع.
من جهتها، قدمت ليليان بركات لمحة تاريخية عن زقاق البلاط، ذكّرت فيها بكبار مثقفي النهضة.
أما سيرج يازجي فقد شرح أهداف المشروع ومضمونه، عارضاً على شاشة كبيرة، بعض المواقع والمباني التاريخية في "زقاق البلاط". أضاف: "نحن نهدف إلى الاستفادة قدر الإمكان من الفرص الكثيرة التي يوفرها لنا زقاق البلاط، مبرزين رأسماله المؤسسي والبشري في إطار إعادة إحياء هذا الحي على الدوام."
أشار سيرج إلى جمالية "زقاق البلاط" حيث سكنته البورجوازية اللبنانية من كل الطوائف والأديان، بنوا معالمه وافتتحوا المدارس، والنهضة تبلورت وانتشرت من هنا".
في دراسة أجريت عام 1995، تم رصد 1059 مبنى للحماية، 94 منها في "زقاق البلاط". وعلى عكس البلدان الراقية، التي لا تحمي فقط المباني فقط بل تلجأ إلى حماية الشارع كله، انحسرت الأرقام في دراسة أخرى أجريت عام 1997 إلى 520 مبنى، ومجدداً في العام 1998 قلّ الرقم إلى النصف وتحديداً إلى 219 مبنى منها 40 في "زقاق البلاط". ومنذ ذلك التاريخ تم هدم أربع مبانٍ.
أكثر من 250 شخصاً: إعلاميون، أساتذة جامعات ومدراء مؤسسات ثقافية وتعليمية، إضافة إلى عدد من أبناء المنطقة، في خمس حافلات توزعت بين اللغات الثلاث (العربية، الفرنسية والإنكليزية)، جالوا على ثماني وعشرين موقعاً تاريخياً وثقافياً. رحلة دامت 45 دقيقة، تعرّفوا فيها على المعالم الأثرية التي أسستها أو سكنتها أو عاشت فيها شخصيات ساهمت في رفع الشأن الثقافي والتعليمي للمنطقة ولبنان.
تناثر السكان على الشرفات المحيطة بالمسار، ينظرون بدهشة إلى الباصات التي كانت تعبر ببطء في الشوارع الضيقة. عناصر من الدرك على دراجاتهم النارية، تابعوا الموكب مما أضاف نوعاً من الفضول على وجوه كل من صودف وجوده على الطريق.
التقاط الصور، ومتابعة د. ليليان بركات في شرحها عن تاريخ كل معلم، "شارع بيهم كان لا يعرف غير القصور... الست مود والصالون السياسي... منزل البستاني على خارطة الهدم من أجل توسيع الطريق...خليل سركيس ولسان الحال... المدارس حافظت على الأمكنة على خلاف سائر الأبنية السكنية...". ثم طلبت من الموجودين أن يعاودوا الرحلة قريباً مشياً على الأقدام، وتمنّت لقاءهم من جديد في أوكتوبر 2009.
سيشمل المشروع سلسلة من النشاطات الثقافية المفتوحة مجاناً أمام الجمهور على فترات منقطعة بين تشرين الأول 2009 ونيسان 2010. ومن بين هذه النشاطات: "تاريخ زقاق البلاط بالصوت والضوء والصور" عن تاريخ النهضة وكبار أدباء زقاق البلاط.
فيلم قصير عن الأبجدية الفينيقية التي أتاحت المبادلات بين الدول بسبب بساطتها والتي أدّت إلى تسهيل الكتابة العربية التي عمل عليها أدباء النهضة فانطلقت بفضلهم طباعته.
توزيع 5000 كتيب عن تاريخ المباني التاريخية التراثية، والثقافية، وقد تم اختيار نحو 28 مبنى من قصور قديمة، منازل، معاهد، مدارس، ودور عبادة، تتمتع بقيمة تاريخية أو مدنية عظيمة. الكتيب الذي أرفق بخارطة لهذه المواقع يهدف إلى تزويد الزوار بمعلومات عن الحي بشكل عام وعن المباني بشكل خاص.
سيعمد المنظمون لاحقاً على إلقاء الضوء على عدد من هذه المباني بواسطة مؤثرات ضوئية وعرض صور للشخصيات التاريخية. كما سيتم وضع لوحات تاريخية أمام كل من المباني المختارة لتشكل مرجعاً للزائرين لتزودهم بالمعلومات، بالإضافة إلى عقد مؤتمرات في بعض منها.
بينما كانت الشاشة الكبيرة تعرض صورة في الأعلى لشرفة منزل يطل على زرقة البحر، وصورة أخرى للشرفة نفسها حيث استبدل البحر بشاطئ من الباطون، وقف أحد سكان "زقاق البلاط" وأطلع الحضور بأنه يملك صوراً للمنطقة لم تمرّ في العرض، وسأل لمن يهبها من أجل الحفاظ على تاريخ الحي.
ولكي لا يصبح الحفاظ على تاريخ منطقة ووطن، فقط من خلال صور تائهة في زوايا المنازل، كان مشروع "زقاق البلاط من الأبجدية إلى النهضة".
http://www.nowlebanon.com/Arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=115529#
I the efforts you have put in this, regards for all the great blog posts.
ReplyDelete