Sunday, 8 November 2009

هذيان







ماذا تريد اللغة العربية منّا؟
أنظر إلى السؤال، أنتظر البقية، أبحث عن عبارة "توسّع وناقش". أتذكّر مقاعد المدرسة الخشبية، وورقة امتحان صفراء خط عليها بأحرف مستعجلة موضوع إنشاء للصف السابع.
أستهل الكتابة، كما علّمني أستاذ لم أعد أذكر من تعابير وجهه غير ابتسامة أمل نحيلة. أكتب: "تريد اللغة منا ..." وأشرع بالتفكير، أسكب نظرات حائرة من بين قضبان نافذة وحيدة، أصغي إلى ليل يئن بصمت من وجع بانت جراحه أضواء مبعثرة في خاصرته. 
" ... أن نكون حفّاري قبور".



أتوقف عن الكتابة، ليس بداعي الإرهاق بل ذعراّ مما خطّت يداي من دون استئذان من عقلي. 

بلا مبالاة، أهز كتفي وأكمل:
"أن ننبش في مدافن الزمن، أن نبعثر سكون التراب فتعلق حبّاته تحت أظافرنا، وتسيل دماؤنا على انحناءة قلم هو أقل من صولجان، وأكثر من سكين نغمده طواعية في صدرنا. أن نتوّج رسلاً، وربما عبيداً نبادل حريتنا بكلمات ننتزعها من عصارة تجاربنا المريرة في حياة نعيشها ولا نملكها".

"أن ننفض غبار النسيان عن كلمات كانت حلوة، إعتدى عليها كثيرون ممن سبقونا، بتروا أطرافها، واستبدلوا معظمها بأخرى مستوردة من لغة أجنبية".

"أن نكون نابشي قبور..."

"أن نسقط مقولة –حرمة الأموات- ونصرخ بأعلى حناجرنا: حرام دفن الأحياء، والتغنّي بجيف تتراقص بأجساد مهترئة على صفحات الجرائد والكتب على وقع موسيقى التحرر... موسيقي منبعثة من قيثارة نتنة بعبق العبثية بكل مقدسات الأدب."

"أن نعيد للغة حكاية منفية عن تشابه كل الكتابات الممدّدة على الأوراق بغنج وقح. أن نثأر لها من تسلل كل الأفلام، الجميلة والقبيحة منها، إلى مخدع القراءة التي باتت لقيطة. أن نعيد لها عرشاً مختلساً من دموع الحرية".

"أن نمزق بأسنانا عن جسدها رداء فضفاضاً لا يليق بجمالها، يخفي عن قصد أو جهل تفاصيلها المغرية. أن نلاعب الأفعال، الأسماء، النعوت... كالأطفال، أن نزيّن كتاباتنا بكلمات مهجورة، تماماً كما نزين شجرة عيد الميلاد، وبالشهية نفسها التي نسكبها لذة على موائدنا الرمضانية..."

هنا، أتوقف عن الكتابة عمداً هذه المرة، لا تعباً مجدداً بل لأن ابتسامة سخرية أضنت شفتي من الهيجان. حتى هنا، في خفايا الأوراق، تطاردني أسطورة "العيش المشترك بين أطياف الشعب الواحد". جملة مدسوسة في كتب تاريخ وطن يرزح تحت نير خداع متابدل. أشعر بامتعاض يطفر من مسامات أصابعي، ودمعة تولد ميتة في حلقي. أكمل ترحالي بين الأفكار، أستسلم لهلوسة تسامرني عند ساعات الفجر الأولى. لا أدري من أين تمخّض هذا السؤال في عقلي، كل ما أعرفه بأنني حدسته كرصاصة طائشة اخترقت صدغي فجأة.

الخاتمة، وتماماً كما علمني أستاذ، ابتسامته الكهلة قد تكون كاذبة، أعيد طرح السؤال ذاته مصحوباً بخلاصة من الأفضل أن تكون واقعية، صادقة، وعميقة في آن واحد. أكتب:
"تريد اللغة العربية منا أن نعيد إحياءها، أن نعتقها من موتها في هذا العصر الألكتروني..."

أشعر بالرضا بعد أن تركت في أخر سطر من النهاية ثلاثية من النقاط الجامدة، تمتص بحزن أكثر من احتمال لأفكار لم أقلها، وديعة بين أيدي من تجرأ وقرأ ما "تفلسفت" به في ساعة أرق صاخبة بشياطين الهذيان.

أطوي الورقة وأفكر وحدي:
"يضع الله حكمته في أضعف مخلوقاته"، وربما هكذا فعلت اللغة عندما "تفلسفت" أنا –الكاتب الصغير- باسمها.


الأحد 08  تشرين الثاني 2009 - السنة 77 - العدد 23869

4 comments:

  1. فلينبش كل منا قبر لغته وليعيد إلى هذه اللغة رونقها
    لقد أوصلناها إلى الحضيض، فلنستعد جزءاً من تاريخنا كي يكون لنا حاضر على الأقل.

    ReplyDelete
  2. فعلاً أوصلناها إلى الحضيض
    عسى أن نفعل شيئاً

    ReplyDelete
  3. Loved it the first time I read, and loved it again just now.

    ReplyDelete
  4. إذا كانت هذه فلسفة فأرجوك استمرّ بها! :)
    شكرا ً لقلمك و لحروفك.

    أظن أنّ ما تريده لغتنا منا هو أن نبرّها قليلا ً و رويدا ً، أن نتلمّس دفأها و حنانها و نعيد أمجادها.

    أظنها تريدنا أن نعشقها!

    ReplyDelete

Share

Widgets