الأسباب الموجبة أو المسهّلة للإقلاع عن التدخين كثيرة: الخوف من الإصابة بمرض غير قابل للشفاء، القرف، التحدّي، توفير المال، لزوم الصوم، المساعدة عبر التنويم المغناطيسي، علكة النيكوتين، أو حتى القناعة الذاتية... فالقرار بالتوقف سهل، لكن مواجهة الذات ضارية ومتعبة. كل مدخن، يدفن في قعر أعماقه قراراً خجولاً بالإقلاع، يصرف معظم حياته بتأجيله إلى الغد.
في حالة واحدة، يطفو هذا القرار إلى السطح ويصبح أولية قصوى. مشهد يتشّح ببياض لا يطاق، يتخلله رجل يرتدي مئزر الأطباء في تكرار للون من المفترض أن يبعث بالطمأنينة في عيون شاخصة. غالباً ما يحمل الطبيب في يده مغلّفاً يختصر حالة المدخن الطبية والرقم المجهول لعدد من الأيام يكتنفها الخطر على صحته. يخبره، بلهجة هادئة، أنه كان محظوظاً هذه المرة، وأنه نجا من بين أظافر الموت الناشبة في أعماق صدره. يكمل حديثه مخيّراً وفي معادلة بسيطة: السيجارة ومصادقة الموت أم الأمل المغمّس بقهر الإقلاع؟ من دون أي تردد، وبعزم لا مثيل له، متخلياً عن كل ماضيه، يختار "الناجي" الحياة أو ما تبقى منها، وهو في معظم الحالات خيار إكراهي.
هناك نوع من الحرب السرية وغير المعلنة بين المدخن وغير المدخن. الأُوَل يعتبر التدخين خياراً شخصياً، بينما يرد الطرف الثاني مشيرًا إلى أن نفسه تتعرض إلى استنشاق مرض ما رغماً عنه، وعشرات الإحصاءات تؤكد بين جداولها أن نسبة هائلة من عديد الأموات، يكون أصحابها ممن نسمّي واحدهم "المدخن غير المباشر" أي الذي ينال نصيباً قاتلاً من ضرر التدخين الذي يمارسه القريب منه. وهي حرب مفروضة يخوضها المدخن رغماً عنه. يدخل منازل الأصدقاء، تبحث عيناه الحائرتان عن مرمدة على المنضدات، إذا وجدها يبتسم ظافراً. فالجلسة قد تطول، يجلس وينتظر القهوة، رفيق السيجارة القديم و"سمسارها"، وأحاديث تتمايل رقصاً على إيقاع أعمدة الدخان المتصاعدة في جو حميم. ومن الممكن أن لا يجد أية منفضة، فيفهم سريعاً أن سكان البيت من أنصار الطرف المعادي للتدخين، فيخفي علبة السجائر في أعماق جيب بنطاله، وعندما يسألونه عما يريد أن يشرب، يقترح كوب عصير يبتلعه على دفعتين أو ثلاث، ويتلهى بالحديث القصير ثم ينسحب رامياً خلفه عذراً ما لتأخر عن واجب أو زيارة ضرورية. وفي اللحظة التي تطأ قدمه خارج مدخل البناية، تنتشل أصابعه، بخفة اللصوص، علبة الدخان من جيبه، يمتشق سيجارة، يشعلها على عجل وينفث رائحة التبغ حول وجهه براحة من يخرج من سجن وضع ظلماً فيه.
بدايات التدخين حكايات متشابهة. السجائر الأولى يسرقها من علب الأهل المتروكة في غرف المنزل. يسرق واحدة، يقلّد حركاتهم، جلوسهم ورائحة نضجهم. أزقة الحي، أولاد الجيران، وسجائر مراهقة تعبق بسعال المبتدئين. مقاعد الدراسة، وزوايا مظلمة من ملعب مدرسة تضم مجموعة مترابطة من التلامذة. مجموعة تلتهمها نظرات الفتيات بانبهار من "رجولتها". وليخترقها ويكون من عديدها "النخبوي" بجب أن يكون مدخناً.
يقبل عن جهل، ليدخل في دهاليز يظن أنها ستؤدي به في نهاية المطاف إلى فهم سر العلاقة بالطرف الآخر. في الجامعة وفي زمن الحرب الأخيرة، يختار التدخين لأنه أراد أن يكون "أزعر"، وقتها كانت السيجارة، بالإضافة إلى كونها علامة تأثير بالنساء، دلالة مقاومة، وتمرد على المجتمع بكل قوانينه الصارمة.
في البداية، يستشعرها دليل تحرر، من الأهل أولاً، وبعدهم، تبيان تفوّق على سائر الأشخاص "الجبناء" غير المدخنين الذين من حوله. تحرر يحوله مع الوقت إلى عبد راضخ بلامبالاة عند أقدام عادة مميتة. الموت، يسمع عنه بأذن طرشاء في شبابه، وبالأذن ذاتها يصغي إلى مواعظ الأهل، يستغرب الدفاع المطلق عن دواعي الإقلاع عنها، وقد لا يجرؤ على سؤالهم عن سبب تدخينهم المستمر. في يوم ما، عندما يقف أمام أولاده مكرراً الحديث ذاته كالآلة، سيفهم طبيعة الصراع المرير الذي عايشه أهله.
... عندما يكبر، يتلفّت حوله، يتأمل شيوخاً مدخنين لم يموتوا، يعتبرهم دليل كذب الأهل، الإعلانات، الدولة وصور الرئة القاتمة المتهرئة على "علب الدخان". قد تتناهى إلى مسمعه أيضاً حكايا موت غير عادلة عن مراهق لا يدخن توفي بسبب نزلة برد، أو توقف قلبه عن النبض. أعذار أخرى، واهية ربما، للاستمرار بالتدخين. يعدد في لائحة بأسماء أشخاص ماتوا لأسباب أخرى غير خاضعة لمقولة "التدخين يسبب أمراضاً خطيرة ومميتة". عندما تكون مدخناً، تبتهل عندما تقرأ خلاصة تقرير عن ارتفاع نسبة المدخنين في الشرق الأوسط، وبأن عددهم بات أكثر من النصف في أوائل القرن الحالي. مدخّن السجائر يغتبط عندما يعرف أن تدخين نرجيلة يساوي بمضاره تدخين علبة سجائر كاملة.
تطيب السيجارة بعد الأكل، بعد الامتلاء تخمة أو لذّة، خلال تحضير الوجبة أو بعد أن ينصرف الآخرون للملمة الصحون والأواني عن المائدة، مع القهوة أو مع كأس خمرة، في لحظات انتظار سيارة أجرة وفي زمن الزحمة. وهي رفيق مشاغب في أوقات الانتظار الممل، وأوقات الراحة من كل ما يحاصر تفاصيل الإنسان في يومياته الروتينية. استقبال الصباح بأول سيجارة، وتسليم الجسد إلى السرير بعد الأخيرة لهذا النهار. التدخين مع الأصحاب توطيد علاقة، قبل إجتماعات العمل وبعدها، عند المدخل الخارجي للفنادق، المتاجر الكبرى والمستشفيات، وقبل لحظات من الدخول إلى المطار. وعندما تطالع المدخن لافتة معلّقة "بوقاحة" على جدار: "ممنوع التدخين"، يستعيذ بالشيطان الذي يطارده أينما ذهب.
مساوئ أخرى غير المخاطرة بالحياة وملاعبة الموت، تكمن في الآثار التي يخلفها المدخن وراءه أينما حل. بقايا السيجارة رماد يتبعثر بفوضى على طاولة مكتبه، في سيارته، على منضدات غرف الجلوس، وتلك الموجودة بمحاذاة السرير. رائحة الثياب، وتلك المنبعثة من الفم عند التقبيل، وعبق حريق في كل غرفة يتواجد فيها. وسواس البحث عن الولاعة الضائعة دوماً، وسؤال المتواجدين من المدخنين عمّن "نشلها"، وصراخ مضحك حول ملكيتها. ثم الهرع إلى حمل علبة الدخان، عند المغادرة، قبل المحفظة وعلاقة المفاتيح.
"من أهون الأمور التوقف عن التدخين"، يتوقف عن الكلام، يمتص نفساً عميقاً من سيجارته، ويكمل هازئاً: "فقد توقفت عنه ألف مرة حتى الآن".
هو أحد الذين أقلعوا عن التدخين مؤخراً، يخبر عن حلمه: "البارحة وجدتني أسير في الطرقات من دون أن أعرف وجهة محددة، على قارعة الرصيف وجدت سيجارة مبتسمة، التقطها على عجل، أخرجت من جيبي كالساحر علبة ثقاب..."، يسكت وعلامات الحزن بادية على محيّاه، ينتظر منك أن تلحّ عليه بالتتمة. وعندما تسأله، يجيبك "استيقظت". تضحك مستفهماً :"ولمَ الحزن؟"، يبادرك حانقاً: "لأنني لم أشعلها، كان حلماً يا صديقي، كان بمقدوري أن أشربها كاملة من دون الشعور بأي تبكيت ضمير".
قرّر الإقلاع عن التدخين، وبدأ مشواراً طويلاً في البحث عن مساعدة طبية. في البداية لجأ إلى علكة يمضغها كلما شعر بحنين إلى طعم النيكوتين. بعدها استجلب حبوباً من فرنسا في حقائب كل الأصدقاء العائدين إلى لبنان. أخبروه أن المكسرات حلّ سحري، جرّبها أيضاً... اليوم بعد صراع مرير في معركة ضارية ضد عبودية التدخين، يقول بأنه أصبح مدمناً على العلكة والمكسرات... وطبعاً التدخين.
على فراش الموت تمدد منتظراً قطار الرحلة الأخيرة، طبيبه المعالج يخبره بأنه خسر أكثر من عشر سنوات من عمره بسبب التدخين. أمام سكوت المريض وحزنه الظاهر على محيّاه المنهك، يكمل الطبيب سائلاً: "ندمت أليس كذلك؟"، يجيبه: "نعم، حزين على إضاعة عشر سنوات من عمري... لن أدخّن فيها!"
السيجارة... رفيقة عمري .. كيف أتخلّى عنها؟
لحظات صمت وتأمل، ثم يصرخ حانقاً: هكذا، (ويمزّق علبة السجائر بكل عزم).
... ترى كم سيصمد قبل أن يشتري غيرها؟
باسكال عسّاف
http://nowlebanon.com/Arabic/NewsArchiveDetails.aspx?ID=125678#
oufff sar badda cigara after reading this article :P~
ReplyDelete