Sunday 8 November 2009

سوق افتراضية لعالم المدينة التحتي في بيتك وبين يديك




جولة سريعة على  صفحات الجرائد الاعلانية المجانية




تكاثرت في السنوات الاخيرة الصحف الاعلانية التي توزع مجانا على المكتبات والمحال التجارية، وتوضع في الصباحات الباكرة على ابواب البيوت في البنايات، وأخيراً راحت هذه الصحف تتنافس في ما بينها وتزايد عددها، وصارت تصل الى كثير من المناطق اللبنانية. الصحف هذه سوق للعقارات والسيارات والادوات المنزلية وغيرها من السلع. لكن الاكثر اثارة وغموضا فيها هو تلك السلع والخدمات المتعلقة بالتجميل والحياة الجنسية وقراءة الطالع وكشف "الاسرار" النفسية والروحانية، والتداوي بالاعشاب. هنا جولة سريعة في عالم هذه السوق المبذولة باسراف على صفحات جريدة.
أيام العمل العادية صباحات تتشابه وتتكرر. استيقاظ وتحضير سريع لبداية النهار، حقيبة وثياب نظيفة، عبور أزمات السير من منطقة إلى أخرى للوصول إلى مكان العمل. صباح نهار الاثنين يحمل طعماً مختلفاً لفنجان القهوة. تلتقط عن عتبة الباب جريدة اعلانية مطوية على عجل، تحملها إلى المكتب، ترتب لها مكاناً في الوسط بعد أن تبعد أوراق اليوم السابق.



لوحة سوريالية
"إعلانية، أسبوعية، مجانية"، كلمات ثلاث تحت اسم الجريدة، رقم العدد وتاريخ الطبع، وعدد الصفحات الذي يتراوح بين 36 و48 صفحة. منها ما يضيف متفاخراً عدد النسخ المطبوعة والذي يصل إلى 300 ألف نسخة أسبوعياً. في الحجم أصغر من الصحف اليومية السياسية التي تعودنا عليها. وفي المحتوى واحة تختلط فيها الأذواق عشوائياً لتصبح لوحة سوريالية متخمة بالألوان. هناك أكثر من شركة تصدر هذا النوع من الجرائد الإعلانية، ومنها ما يصدر ملحقاً صغيراً من 24 صفحة.
غالباً ما تغلف الجرائد الاعلانية صفحتان مستقلتان لإعلان عملاق يتمدد فوق الصفحة الأولى، وآخر على الصفحة الأخيرة. عند التصفح، قد تتساقط من الجريدة ملصقات صغيرة وكأنها حُشرت على عجل بعد الانتهاء من تحضير العدد قبل الطباعة. لهذه الصحف امتداد وتجدد على مواقع الانترنت، ومنها ما حمل الفكرة ونشرها في عدد من البلدان العربية. هناك طرق عدة للاتصال بالشركة من أجل نشر إعلان، كزيارة مكتب الشركة، وارسال الإعلان عبر البريد الإلكتروني، وعبر موقع الجريدة على الانترنت، او باتصال هاتفي، أو عبر الفاكس. سعر الإعلان المبوب يبدأ من عشر دولارات ليصل إلى مئات الدولارات لتلك المصوّرة، عادية أو ملونة.
الصفحة الأولى
الصفحة الأولى تتقاسمها إعلانات مصورة بألوان مختلفة أشبه بأزهار اصطناعية وحشية غير متناسقة وضعت في وعاء. تتشارك اللغتان العربية والأجنبية المساحة في جمل متناثرة - منها مثخنة بأخطاء لغوية أو طباعية، ومنها باللغة العامية المتنكرة بقناع الفصحى - بين الإطارات السوداء التي تفصل إعلاناً عن جاره. ومنها ما تلتقطه العين عنوة، وتقرأ العروض مع ما يرافقها من دعوات ترغيب كإمكانية التقسيط، أو دعوات استعجال لأن الكمية محدودة.
صورة امرأة ممددة في ثياب السباحة، كتبت على معظم جسدها كلمات غير مقروءة تدفعك إلى تقريب الجريدة من وجهك وعصر العينين لمحاولة فك طلاسمها. شعار لشركة بأحرف مزخرفة، في محاولة لإبقاء اسم الشركة في حال من التكرار المستمر لينطبع مع الوقت في العقل اللاواعي. أرقام مميزة لخطوط الهاتف المحمول. ومع بداية الخريف تكثر إعلانات المعاهد المدارس والجامعات، لكن في معظم الفصول لا بد من وجود إعلانات عن محال التجميل وشعارات إزالة الشعر نهائياً من اجسام النساء، تقابلها في خانة مجاورة دعوات لزرع الشعر في رؤوس الرجال.
سوق في جريدة
ما بعد الصفحة الأولى بصفحتين أو ثلاث تكرار لانتشار الإعلانات المصورة. زوايا لا تنتهي لعروض بأسعار أرخص من تلك التي تصادفها في المحال التجارية. فالتسوق في الأيام العادية، يحتاج إلى اقتطاع وقت من العمل أو فترات الراحة وقيادة السيارة في تحدٍ للزحمة المنتظرة أبداً في الشارع. هنا على صفحات الجرائد الإعلانية حكاية أخرى.من دون أن تترك مكتبك، أو غرفة الجلوس في منزلك. في ثياب رسمية، رياضية، أو حتى في ثياب النوم، تستطيع أن تتمشّى افتراضياً في عالم لا بداية له ولا نهاية، ورغم ذلك حدوده أصغر من المسافة الممتدّة بين راحتيك.
الأقسام الداخلية متنوعة بين معروض ومطلوب، للبيع أو للإيجار، قديم وجديد. لكل منطقة زاوية، وفي نهاية كل نوع من الاعلانات جزء مخصص للمتفرقات. الحيّز الأكبر من الإعلانات مخصص للعقارات: أراض، شقق، شاليهات، محلات، مستودعات، ومكاتب... قسم للوظائف وفرص للعمل مرتبة بحسب الاختصاص. قسم آخر للمحركات من سيارات، دراجات نارية، معدات زراعية وصناعية... وأقسام للتكنولوجيا، والالكتروكهربائيات، ومقتنيات يتفاوت عدد اعلاناتها بحسب كمية الإعلانات المنشورة في كل اسبوع.
 
التوصيل المجاني محفّز آخر للشراء. كثيرة هي الأشياء التي تتذكرها، حين يتراكض بصرك بين السطور. وقد تكون نسيت أنك في حاجة إليها، إلا أنها تصبح فجأة من ضروريات الحياة. ناهيك عن تلك التي قد تخجل من طلبها في الصيدليات. مكالمة هاتفية بسيطة وانتظار لا يطول حتى يقرع باب منزلك عامل التوصيل حاملاً كيساً يخفي ما في داخله. فالسريّة مضمونة، والإغفال او الغفلية مؤمنة في هذه السوق الضخمة على صفحات جريدة.
في هذا العالم الاعلاني الكبير، عروض لأشياء لم تُعرف سابقاً أنها موجودة في الأسواق. حيل مختبئة بخط صغير في أسفل الإعلان، مثل أن السعر لا يشمل الضريبة المضافة. أو أن سعر الكمبيوتر المغري لا تدخل الشاشة في مميزات عرضه.
كأبنية حي شعبي
الإعلانات المبوبة مرصوفة كأبنية حي شعبي، لا يمكن التمييز بينها إلا بعد التدقيق. بعضهم يعمد إلى تغيير لون الخط لإظهار ما يعلن عنه وتمييزه عن سواه، أو يختار عبارات مختلفة بعض الشيء . رحلات سياحية إلى شرم الشيخ، فارنا، الأردن، اسطنبول، تايلاند... بأسعار زهيدة مع إمكانية التقسيط لسنتين.
"
نداء إنساني عاجل، شاب في حاجة ماسة إلى زرع كلية"، مع تضخيم الخط عند كلمات شاب، ماسة، وكلية.
إعلانات تحمل باقة من الأسئلة التي تتمنى أن تجيب عليها بنعم حازمة: "صوتك جميل، تحب السفر، تريد أن تصبح من المشاهير، أن تعيش مثلهم وتغني مثلهم؟ طريقك إلى النجومية يبدأ باتصال على الرقم كذا".
تجول بين الصفحات. تحوط إعلاناً ما بقلم. تدوّر آخر بأكثر من خربشة للدلالة على أهميته. تلتقط المقص تقتطع عناوين قد تحتاجها في المستقبل. تبدأ سلسلة من الاتصالات بحسب الأهمية. تسأل عن معلومات اضافية. أجوبة المعلِن مقتضبة، مستعجلة وبلهجة شبه باردة. كأنه مرهق من كثرة المكالمات التي تلقّاها. أحياناً يجيبك قبل أن تنهي عبارتك، ومرات كثيرة لا يجيب. يطفئ جهازه أو يجيب بأن الشقة، السيارة، الغرض قد بيع أو أن الإعلان قديم.
قوى فوق الطبيعة
معالج روحاني لديه دواء لكل داء، وحلول لمختلف المشاكل العاطفية والنفسية، وعلى بعد اتصال بسيط. كشف الخبايا، فتح أبواب الحظ، والتخلص من المشاكل مع تشديد على أن النتائج مضمونة.
عالم فلكي مختص بمعرفة المشكلة من دون شرح منك. يكشف لك كل المستور في جلسة واحدة. الأبراج لها دارسوها وإعلانات لكشف طالع العام الجديد شهراً بعد شهر. للزواج والحب زوايا لكل من "تريد تحويل نفور زوجها إلى حب مشتعل"، "لجلب الحبيب وحل الخلافات الزوجية خلال 48 ساعة" و"لمعرفة نوايا الحبيب"، أو"إرجاع المطلّقة" . "لشهر واحد ولأول مرة في لبنان يسر عالم روحاني باستقبال زبائنه في مكتبه، بناء على موعد مسبق". بعضهم يخصص نهاراً في الأسبوع لاستشارات مجانية "عمل لوجه الله"، وبعضهم متخصص في النساء فقط، أو له أكثر من كتاب في علم الفلك.
كلمات وكلمات وعبارات تحمل الغموض في طياتها، وزّعت في أنحاء الصفحة، متقاربة، متلاصقة ومتزاحمة في ما بينها للكشف عن كل سر ومستور. تتنوع بين قراءة الطالع، فك الطلاسم، السحر، المربوط، القرين، الملبوس ولو عن بعد. وبعون الله، كشف الحقائق، واستنطاق الأرواح. ولتعليم العلم الروحاني إعلاناته مع قراءة المستقبل والنبش في الماضي، وفتح المندل وباب الرزق، وحسابات الزواج، وحجاب لكل العوارض... أسماء لرجال ونساء، تسبقها ألقاب: كشيخ، عالم روحاني، فلكي، الست، أو طبيب روحاني... الخ.
دعوات دينية مصحوبة بتحذيرات عن يوم الدينونة. وصف حال اليوم، أولئك "السائرون وراء المال والشهرة وحب الذات، وأسقطوا من يومياتهم رضا الله". وهناك إعلان عجيب: "لقد مضى الصيف والبشر لم يخلصوا.. العالم في حيرة... والآتي أعظم". وتمنيات بالعودة إلى الدرب السليم قبل فوات الأوان. تقديمات مجانية لكتب دينية، مشورة روحية، وسلسلة من الدروس المجانية في هذه العلوم.
خاص بالرجال
الإعلانات الخاصة بالرجال متكتمة. في ظاهرها تحمل إغراءً ملحاحاً. منها ما يحتجب بصورة لرجل وامرأة في وضعية محتشمة. أو يفصح بصورة شاب (جميل دائماً) عاري الصدر مبتسم، وقد بانت أسنانه الواثقة من الجمل المعروضة: "كريم للتكبير والتضخيم الفوري، فعالية سريعة وأكيدة"، "كريم أو محارم للتأخير"، "خلال 10 دقائق فعلياً، تستعمل قبل الاتصال الجنسي بعشر دقائق... ولكافة الأعمار".
"
خاص للرجال"، تقرأها وتفكّر بالإعلان: "حلمك أصبح حقيقة". رسالة باطنية تخبرك أن عليك شراء هذا المستحضر لتكون رجلاً. كلمات قليلة حاسمة تصور الأمر وكأن الرجل، إن لم يسارع إلى الاتصال الفوري، يتحول إلى أناني بشكل ما ويحرم امرأته من لذة مضاعفة.
"
معتمد بشهادة أطباء أوروبيين"، جملة مدسوسة بذكاء لتنفي الخوف والتأني، قد تشتري  وتجرّب... ومن الممكن أن تكون سعيداً في النتيجة. وربما تختار أن تؤجل الفكرة مرتاحاً لزمن الشيخوخة التي لن تتأثر بوجود طب يسترد بعضاً من الشباب. "من عمر 20 إلى 80 سنة"، لا خوف. "صحتك مش لعبة" شعار آخر، يخيفك من الاهمال. يسألك أن تشتري من بائع موثوق، ويضيف إلى إعلانه بلد المنشأ الأوروبي. "الحبة بسبعة دولارات"، وهناك أنواع للمتقدمين في السن ومرضى السكري والقلب". ولمزيد من الاطمئنان هناك من يضيف "بطاقة كفالة، كتيب تعليمات"، أو ملاحظة أن "جميع الأصناف مصنوعة من الأعشاب ومن دون عوارض جانبية".
إلى اللقاء في الأسبوع المقبل
لأكثر من ساعة تطارد الإعلانات أو تطاردك الاعلانات. تقرأ، تدون إشارات وأرقام هاتفية. تبتسم مرات، وتغوص في حسابات مرات أخرى. قد تعود إليها في بحر الأسبوع عندما تحتاج إلى رقم هاتف أحد المطاعم. فالعدوى أصابت الجميع. والتاجر اللبناني لا يقبل أن ينشر منافسه إعلاناً من دون أن يشعر بالحسد. يسارع إلى حجز إعلان في الأسبوع القادم يكون مجاوراً لغريمه، وفي الحجم نفسه على أقل تقدير.
الجرائد الإعلانية عالم افتراضي يسير فيه الزبون المحتمل وكأنه سائح يتفرّج على معالم جديدة. تطالعه الإعلانات صوراً يتسلّى بها بعيداً عن روتين حياته. تجربة فريدة، يكررها البعض كل أسبوع، ومنهم من أدمن عليها، وآخرون تعبوا من الترداد الممل. بعض من الأشخاص يتأبطها ويسير في الشارع مختالاً، فأخيراً أصبح له جريدة مجانية يطالعها من دون أن يحتاج إلى كثير من المعرفة اللغوية والتحليلية، بعيداً من أوجاع الرأس، وإعمال الأفكار وإرهاق الأعصاب.


باسكال عسّاف      

No comments:

Post a Comment

Share

Widgets