دعوة
عندما دعاني صديقي إلى حفل توقيع كتاب، سألته عن اسم الكاتب. نطق اسمه بتمهّل وانتظر. كولد يراقب حبات المطر على زجاج نافدة سئمت السكون وقلت ساخراً: "ومن هو راوي حاج هذا؟". مبتسماً أردف: "كاتب مغمور في لبنان، ومشهور في بلاد الاغتراب".
لم يعلم صديقي في تلك اللحظة أنني ارتأيت ألا أذهب، وإن كان لا بد من إراقة الوقت فليكن في صحبة أولئك الذين يعيشون تحن أقدام الشهرة، لعلني عندها ألتقط بعضاً من تألقهم على هامش وجودي بقربهم.
دعوة ثانية
على بعد بضعة أزقة من مكان التوقيع التقيت بصديقي مرّة أخرى. في لقاء صاخب وجدتني في زاوية أنفض عن جسدي رذاذ الضجر. عندما وضّب وجوده واستعد للذهاب، رمقني بنظرة متسائلة إن كنت باقٍ على الموعد. أشحت بنظري إلى الناحية المقابلة، لكنه عاد أدراجه وقال: "تعال معي وان شعرت بانزعاج هناك أعيدك إلى هنا".
وبين حقيقة غربتي هنا، وجدتني توّاقاً إلى مجهول هناك...
أمام الكتب المكدّسة على الطاولة وقفت، أنظر بطرف عيني إلى غلاف كتاب "مصائر الغبار". كلصّ محترف تناولت الرواية، أطلقت أصابعي بين دفّتي الكتاب وقرأت مقطعاً عشوائياً، من ثم أعدته إلى مكانه من دون أن أحيّي "الصرصار" الرواية الثانية الممدّدة إلى جانب الأولى متفاخرة بشبابها.
عندما جلست لأستمع إلى راوي يقرأ مقتطفات من كتابيه، كنت قد عزمت على شراء الروايتين من دون تفضيل واحدة على أخرى. سأتوقف هنا، عن سرد بقية الأحداث لمزيد من الصراحة، فقراري لم يكن مطلقا نابعاً عن إعجابي بما قرأت آنفاً، أو ما سمعت الآن ( بالرغم من أنني أحببت ما سمعت وقرأت )، ولكن وجدتني أسرق من راوي جسده وأسكب على الكرسي جسدي أنا لأقرأ، معتبراً الفتاة الجالسة أمامه تردّد بالعربية ترجمة ما أقوله.
قراري بشراء الكتابين، لم يكن أيضاً بغية تشجيع كاتب من لبنان، وطبعاً ليس ادعاءً بممارسة الذوق الأدبي أمام صديقي. الحقيقة العارية أنني ضعيف الإرادة أمام دلال الكتب.
رجل عادي الملامح والحركات راوي ( أو هكذا أردت أن أراه )، لم تحرق الشهرة بشرته بوهجها. بكل تهذيب وقّع كتابي، ووقف بجانبي كصديق من أجل صورة تذكارية.
عندما حملت الكتابين وأصبحت مالكهما الجديد، وبدل أن أعود إلى مقعدي اعتذرت لصديقي بسبب تأخر الوقت، وبأنني أنتظر بين لحظة وأخرى من يقلّني.
في الرواق بالقرب من المدخل شرعت بقراءة أول رواية.
الليلة الأولى
وضعت كتاب ميلان كونديرا جانباً وحملت بين ذراعي كتاب "مصائر الغبار"، مرّة أخرى تحت قسم الصراحة، أكتب. ليس توقاً أو شغفاً بكتاب راوي بل حباً بكونديرا. الكتاب الذي تعشقه تحزن عندما تنتهي من قراءته، من أجل ذلك ولأن الكتاب كالخمر الجيّد، تشرب منه إلى حد الهذيان وأبداً إلى هاوية السكروضعت كتاب كونديرا جانباً وقرأت أول صفحة في رواية راوي.
التهمت السطور كراهب بعد صيام، لم أتوقف. قاتل النعاس جفنيّ، قبلتها معركة وأكملت حتّى شعرت بأنني أكسر قاعدة الثمالة. تخلّيت عن الكتاب ودعوت الأحلام إلى بعثرة مجريات يومي. تقلّبت في السرير كعصفور يبحث عن راحة في أول ليلة يقضيها داخل قفص.
حملتني الرواية إلى وجع الحرب: الحرب التي أذكر من مشاهدها الدموية أكثر مما أحفظ في ذاكرتي طعم شفاه النساء اللواتي قبّلت في كل حياتي.
أحببت بطل الرواية بسّام، وصديقه جورج. الأول المتمسّك بمثالية ممزّقة والثاني الذي يشبه كل الأصدقاء...
الليلة الثانية
ابتسمت وحزنت لأكثر من مرّة، وبعد انتهائي من قراءة كل صفحة كنت أمضغ الندم لسكوتي عن انتقالها إلى جهة اليمين.
سباق لا أريد أن أربحه، ولن أغشّ فيه وأقلب أكثر من صفحة كما أفعل مع كتّاب آخرين ولكنني وجدتني في المنافسة أركض بلا هوادة. فكّرت مليّاً أن أضع الرواية جانباً واستلّ كتاباً آخر أقرأه حتى أدخر ما تبقّى من "مصائر الغبار" إلى الغد، أو ما بعده أو ربما لما بعد شهر. لا أريد أن أعرف النهاية ولا التتمة. عاودتني ذكرى الخمر، هذه المرّة شعرّت بأنني أريد أن أعتّق طعم الكلمات إلى الأبد.
أسلوب راوي مشّوق، يسري كمياه النبع في الحلق، ينزف صوراً أقرب إلى الشعر، وبين الفينة والأخرى تصادفك عبارات قصيرة تنقلك في الزمن إلى الذاكرة. تنفض الغبار عن أحداث عبرتك، عن مشاهد مرعبة من الحرب، وأعلم أنني عشتها، أو ربما سرقتها عن شاشات التلفزة وصفحات الجرائد، وحكت منها ذكريات مراهق عاش ونجا في الحرب اللبنانية.
في الليلة الثالثة
تمدّدت على السرير للحظات، حرّكت الكتاب على المنضّدة من دون أن أحمله. خدعت أصابعي وأعطيتها قلماً لتكتب عن راوي. ليس حبّاً براوي بل هرباً من قراءة الرواية التي لا أريد أن تنتهي.
ولأنني الآن أشعر بالنعاس يبعثر ثبات الأشياء حولي توقّفت عن الكتابة وسأخلد إلى النوم. سأصلّي كي لا أفكّر براوي وكتابيه، وسأصلّي ألا أحلم أنني كاتب رواية "مصائر الغبار"...
لن أقرأ الليلة لأنني وبكل صراحة أكره راوي حاج، "عشرة آلاف مرّة أكرهك يا راوي حاج لأنك كاتب مميّز... من لبنان".
أحببت هذه الطريقة جداً، متحررة من أي مجاملة وحقيقية إلى حد التقدير والإعجاب.
ReplyDelete"عشرة آلاف مرّة أكرهك يا راوي حاج لأنك كاتب مميّز... من لبنان".
نهاية معبرة جداً
اكرهك يا باسكال عساف!! قرأت المقاله مرتين، اول مرة كمن يتذوفق الخمر لأول مرة، ببطء وتمهل، علّ الرشفات الأولى تسكر او تذهب العقل.. وفي المرة الثانيه شربت كتابتك شرب سكيَر على طاولة قمار ارتشفت نبيذ كلماتك بمتعة وتلذذ، وبكل رشفة رغبة بالمزيد.. لا استحي بسرقة عباراتك وتشبيهاتك.. ولا اعتقد انك ستمانع.. احببت هذا التشبيهن فقد صدقت عندما قلت ان الكتاب اجمل من الخمر ونشوته لا تذهب.. كمااشاركك محبة كونديرا. اما بالنسبة لراوي الحاج فلا مجال لي بزيادة او اضافة على ما كتبته.. هنيئاً لك ما تذوقته من نبيذ الكتب وهنيئاً لنا بكاتب من لبنان اسمه راوي الحاج وهنيئاً لراوي الحاج بقرّاء مثلك يا باسكال
ReplyDeleteحببببييييت
ReplyDeleteمقالتك ستجبرني على شراء روايتي راوي مع انني اتجنب قراءة الرواية العربية و افضل عليها الشعر. أعجبتني عفويتك هنا و لكأنك نقلتنا معك الى الطاولة و الرواق و الى باسكال ايام زمان و الى الرأس والأفكار المؤرقة.لديك اسلوب فعلا مميز في الكتابة و قد تكون الميزة تتخطى اللغة و تطويعها لتقترب أكثر الى النفس.يا باسكال اشعر انك كاتب مميز, و أكثر...أنت شخصية مميزة. اتمنى لك النجاح الدائم....و لكن عندي سؤال: اي كتب كونديرا تقرأ الآن؟
I thought I was the only one who "hated" him.
ReplyDeleteOne thing I could say for sure, is that you managed to reflect both the passion and the anxiety that I felt while reading both of Rawi's books into your story. And for that, I "hate" you too!
Eliane Bader
ReplyDeleteشكراً على مرورك العزيز
الحقيقة أن راوي انتزع التقدير والاعجاب رغماً عن أنفي
Dany
أكـــرهك أنا أيضاً يا صديقي لأنك عرّفتني على رواي
أما بالنسبة إلى السرقة
- هيك هيك الكره ماشي -
اسرق ولا تنظر الى الوراء
Maeiva
ReplyDeleteشكراً شكراً وشكراً
أتمنى أن يصدق شعورك :) من كل قلبي
صدّقيني لن تندمي على شراء الروايتين
أما بالنسبة إلى كونديرا أقرأ مؤخراً
"فالس الوداع"
Hummus Nation
ِAhla b hal talleh
nawwarit il blog
Nice now i have to "hate" you more than before :D
I was shocked when i read the title, i said no way Pascal can never be that rude, inno walawwwwwwwwww!!
ReplyDeleteWell it is so impressing how rudeness turned out to be extreme appreciation...
And the book Sirsar comes from sarsour right ?!
Anonymous
ReplyDeleteI am Glad i didn't disappoint u,
thank you for your visit
and yes il sarsour sar sorsar in literary language
a special book review, so special
ReplyDelete