Sunday 27 September 2009

الليلة الأخيرة



" باسم ما كان بيننا، أطلب منكِ أن تفي بوعدك، أن تمنحيني الرحلة الأخيرة. أستحلفك بالحب العالق في ثنايا قلبك، وببقايا غبار عهدٍ استعصى على الوقت، أن تقابليني لآخر مرّة في الليلة الأخيرة، سأنتظرك في شقتنا إبتداءً من الساعة الثامنة ".

نظر إلى الورقة، تأكّد من خلوّها من الأخطاء. لم يذيّل الرسالة بتوقيعه. رشّ عليها قليلاً من عطره. ثناها بعناية فائقة وسكبها في ظرف أبيض، ثم شرع بكتابة اسم المرأة وعنوانها.

تمهّل قليلاً. تاهت نظراته بين جمود الأشياء حوله. لا أثر لحياة تعبق فرحة في أرجاء المنزل. لا أصوات عالقة في الزوايا. الندم زوجة لم تولد بعد، كل ما يحوطه ينعم بالسكينة إلا هو. رجل لنساء كثر، بائع أحلام لم يعد يملك وقتاً لينام.

أغلق مفكّرته، كانت هذه آخر النساء. أحنى رأسه الى الوراء يتأمّل الغد الذي باتت معالمه تظهر على السقف كرسوم بقلم رصاص. خطّط لكل شيء بسرعة. صديقه الوقت إنقلب عليه، المرض يسري في عروقه كخريف يكنّس الحياة من غابة كانت تعتنق الربيع لزمن بعيد. مرّر طرف الرسالة على لسانه، وكأنّه يقبّل جيد المرأة المسجونة في ذاكرته. تأمّل لعابه، أصابعه المرتجفة. شعر بسكّين تحفر في صدره بحثاً عن جمرة تخفي احمرارها تحت غطاءٍ رماديّ من الخوف. تناول عن الطاولة محرمةً وسعل. بصق الجمرة، كوّر المحرمة وألقاها في سلّة المهملات. دمه أصبح رخيصاً.

        ترك كلماته على الطاولة، تمشّى في البيت يودّع كل غرفة على حدى. المطبخ إمرأة شقراء تطهو العشاء، عاريةً ترتدي مئزراً أحمر، وقد بان جسدها الأبيض، كأنّها تفاحة الجنة والمئزر ما تبقّى من قشرتها. الرواق أصداء ضحكات نساء عبرن وبقايا ثياب مثيرة تناثرت على جوانبه. الأثاث في غرفة الجلوس، أحلام نساء سالت شهوة، رائحة لذّة مسكوبة من فم الحب.

فجأة شعر أنّه لم يعد وحيداً، للحظة أحسّ أنه يسمع وشوشات من شاركنه لياليَ طويلة، صدًق أنها لن تنتهي. تلفّت حوله، تلاقت نظراته بعيون الفراغ الشّامتة من وحدته. انتصب أمام السرير، يبحث عن فسحة باقية بين أسماء، ليمدّد جسمه المتعب عليها. حشر جسده على الطرف وكأنه يترك ما تبقّى من السرير لشريكٍ سبقه إلى النوم. مدّ يده إلى المنضدة، تناول فحوصات المختبر التي تؤكد عبارات طبيبه المعالج. لم يتبقّ من عمره أكثر من يومين كحدٍّ أقصى. الوقت في معصمه يشير إلى سبعة وعشرين ساعة. إبتسم لأول مرّة منذ البارحة، تنبّه إلى أنه صار يقرأ الزمن بطريقة معكوسة. الوقت كان صدى الحاضر، تحوّل الآن إلى بوق إنذار يحصي آخر ساعات المستقبل.

غداً يوم آخر.
غداً ستشرق الشمس من أجله هو.
غداً سيغيب معها.
غداً يومٌ... أخير...

* * * * *

إستيقظ على صوت طرق عنيف على الباب. غفا رغماً عنه، ظنّ أنه لن ينام إذا تسامر كلّ الليل مع أفكاره. نضبت كلماته ورحلت. تركته أسير النّعاس. دخلت المرأة إلى المطبخ على عجل. لم يكلّمها، ردَّ بتحية مقتضبة. تناولت الركوة، ملأتها بالماء وشرعت تعدّ قهوته الصباحية.

دخل إلى الحمام، ألقى بجسده تحت الماء، تأمّل كل قطرة ماء، لاحق سريانها على جلده وكأنّها تستمتع بملامسته. رافق انحسار السخونة رويداً رويداً، حاول أن يطيل بقاءه لأطول فترة ممكنة. أراد أن يغسل ماضيه كلّه في هذا اليوم الأخير. برودة المياه المتدفّقة بغضب على وجهه الجامد، أعادت إليه شعوره بالحياة.

إرتدى ثيابأً بيضاء على غير عادته في السنوات العشرين المنصرمة. غداً يرتدي مجدّداً اللون الأسود. رفع رأسه، لصق إبتسامةً عريضةً على شفتيه، وتبع رائحة القهوة المنهمرة في أرجاء المنزل. جلس على الأريكة وشرب أول رشفة من آخر صباح.

كلمات طبيبه تهاجم عقله. حبّ الحياة يسأله أن يذعن الى النصيحة. هناك أمل أن تطيل إحدى الآلات عمره لأسابيع إن هو رضي أن يتلقّى علاجاً في المستشفى. تلاحقت الصور الهازئة من أمل مشروط. أن يُسجَن في غرفة، مستلقياً على سريرٍ، منتظراً قطاراً يسمع صوت نفيره من دون أن يراه. أن يُربط ككلب مسعور، أن يتفرّج على ذوبان جسده، أن يشتمّ رائحة سيلان أنفاسه. رائحةً توسّخ الغطاء الأبيض باسم التمرّغ بأوحال فرصة مسروقة من طبّ لا يفهم كرامة من هم برسم الموت. رفض النصيحة.
  
عادت نظراته هادئة، نصف ابتسامة تعلو محيّاه. يلتقط علبة دخان مختومة، يقشّرها. يسحب من ثغرها سيجارة. يحملها الى شفتيه، يبلّل طرفها بلسانه وينتظر. من المطبخ المطلّ على غرفة الجلوس ترمقه المرأة بحيرة. تختفي للحظات وتعود حاملةً منفضة زجاجيّة. تضعها أمامه وتسأله:
-       " متى عدت إلى التدخين؟ "

تكتمل الإبتسامة على وجهه، يجيبها من دون أن يفلت اللفافة المتدلية بسأم من شدقه:
-       " الآن "

قعر فنجان القهوة بقعةٌ سوداء عصت على شفتيه. المنفضدة إنتظار الرماد. هو يقف كوتد في وجه عاصفة موعدها مع آخر أنفاس الليل. يمشي بخطى حثيثة نحو الباب، يلتفت إلى المرأة المنهمكة بتنظيف الأريكة الطويلة بقطعة قماش أصفر، يخاطبها، لآخر مرة:
-       " تركت لك على طاولة المكتب أجر شهر كامل ومفتاح باب المنزل، قد لا أنتبه لوصولك في الغد ."

قبل أن تسأله عن المال المسبق، والشهر الذي لم ينقض بعد، عبر الباب وأغلقه خلفه. وقف أمام العتبة وأشعل سيجارته الأولى منذ ثلاث سنوات.
    
* * * * *

الوقت ست ساعات. الرسائل ست قرأنها ست نساء. ست علب كل واحدة إحتكرت لوناً مختلفاً وإسماً يليق بصاحبته. كل صندوق يحتضن بضعة أشعار وصور مسروقة من علاقة إنتهت بحقد عليه. ست نساء كل واحدة منهن كادت أن تصبح زوجته. ست مرات هرب من قلبه. ينبض صدره بغصّة، يهرول إلى علبة المحارم، يلتقط واحدة يسكب عليها أنفاساً حمراء. يمشي إلى المطبخ، يسقطها في سلّة مهملات أشبه بكومة ثلج تنزف. 

الوقت خمس ساعات. خمس ساعات باقية من عمره. منها ساعة واحدة مرهونة للإنتظار. يتأكد من ترتيب الأجزاء الستة من وصيته. يكرّر في ذاكرته آخر خطاب له أمام من سيحضر إلى جنازة مبكرة. سيخدع الوقت هذه المرّة، للمرّة الأولى سيودع الميت أحياءً أحبّهم. يضحك للصورة التي احتلّت آخر أفكاره. تختلط في أرجاء الغرفة أصوات ضحكاته المدوّية بحشرجة سعاله الغاضب. يسيل الإنتقام لعاباً أحمر على شفتيه المرتجفتين.

الوقت أربع ساعات. عيناه تلعقان تفاصيل الباب الخارجي. أنفاسه صراع مع الثواني. سيأتين، متأكّد من الوعد الذي قطعنه له. في كلّ مرة وقبل أن تنتهي علاقته بإمرأة أحبّها كان يرجوها أن تعده بليلة أخيرة. ليلة يقال فيها أحاديث ولدت صامتة عند افتراقهما. يتذكّر السطر الأخير في رسائله. "إبتداءً من الساعة الثامنة"، لم يسجن الوقت بين دفّتي عقارب الساعة. خاف كل حياته من لحظة واحدة تجعله أسير قرار. "إبتداءً من الساعة الثامنة"، لا، لم يتأخّرن بعد، لا يزال في جعبة الإنتظار أربع ساعات. يصرخ بأعلى صوته "إبتداءً من الساعة الرابعة"، تردّد الوحدة صدى كلماته. تتفتّت الكلمات بألوان حمراء على أكثر من محرمة.

        الوقت ثلاث ساعات. في مفهوم الأحياء الزمن التاسعة ليلاً. في حسابات رجل صدر حكم الزوال عليه، هو باقٍ ثلاث ساعات لتتمتع عيناه بمجرد الرؤية. لا، لم يتأخّرن. يستطيع أن يرى الباب الخارجي الساكن كيفما نظر. يحمل محرمة بين أنامله، يفردها على راحته بترتيب. نظافتها دعوة ليلفظ إنتظاره دماً رخيصاً.

الوقت ساعتان. ساعتان فقط. يجلس أمام كل صندوق، يتنشّق رائحة المرأة المنبعثة من تحت الغطاء، ينتقل من علبة الى أخرى دائرياً كعقرب الدقائق. عند المرأة الخامسة، وفي ثالث دورة يسمع طرقاً خفيفاً على الباب. أصغى الى الصمت الممدّد ببلادة بينه وبين الواقف وراء عتبة المدخل. " ترى أيّ إمرأة أتت؟ " بضع ثوانٍ تفصله عن المرأة التي وفت بوعدها. " ترى هل سيحضر من بعدها حبّ آخر؟ ". يتأمل العلب الست، يفكر بالمرأة المنتظرة وراء الباب. يتكهّن، يعصر قلبه يسأله عن اسمها. حبذا لو يعرف من هي، سيرمي العلب الخمس الباقية في سلّة المهملات. ربما يسلّمها الصناديق الست مرفقةً بحياته كاملة، وما تبقّى منها. سيشطب كلّ أسماء النساء السابقات ويكتب اسمها هي على كلّ الأشعار التي كتبها لكثيرات، الآن امرأة واحدة إختصرت كلّ الوجوه. يرتجف الباب بخجل على وقع ترداد الطرق الخفيف على صدره. يتوجّه صوبه. يمدّ يده إلى المقبض الحائر. يديره بهدوء ويتراجع خطوةً الى الوراء. ينبثق وجه الزائر من الظلمة كسيف جلاّد. يسأله عن منزل جارٍ له، يجيبه بأدب. يغلق الباب على أمل مخادع. تستسلم رجلاه إلى التعب. يتعانق ظهره وظهر الباب. ترتفع راحتاه تغطّي وجهه الأصفر. يبكي دماً.
   

الوقت ساعة واحدة. العمر ندم ساعةٍ واحدة.

الوقت فراغ. الرجل دم يتجمّد، المحرمة في قبضته المنتظرة... بيضاء.


نشرت في النهار - الملحق الثقافي

1 comment:

  1. من أجمل القصص التي قرأت

    عمل ممتاز

    ReplyDelete

Share

Widgets