Sunday 4 April 2010

ماذا قال الموت للنبي؟


تمدد على السرير في قلب الليل، أحس ببرودة تنزلق عند أطراف عينيه، ذرف كلمات لن تصل إلى أوراقه. أغمض التعب جفنيه، رفعهما بكسلٍ من جديد، نظر إلى الفضاء الضيق. فكر في العمر عندما ينزف آخر الأيام


الضوء الخافت وردة ذبلت على حين غرّة، الوحدة نافذة تطل على شارع يمسح عن صدره فوضى تركها أبناء الضجيج. لوحاته المعلّقة على المراسم حزينة، تعاتبه بصمت، هنا نسي أن يرسم ابتسامة على وجه امرأة، وهناك كان من المقرّر أن يضيف ملاكين فوق أكتاف الأمل.

أوراقه المكدسة كأمنيات تحت وسادة، مرتبة، تنتظر بعضاً من وجعه، وكتابه الأخير حديقة زرع فيها وردتين وشجرة على غصنها مكان لمبيت العصافير المهاجرة.

الغرفة وطنٌ هارب، الطاولة يدٌ تحمل رأساً أنهكته العظمة، ويدٌ أخرى مستلقية الى جوار قصيدة. المنفضة رماد أيام خلت. العتمة طردت الألوان وأبقت الأسود وبعضاً من الأبيض الخائف من فضول الغبار

الحياة ترنيمة، الرجل الممدد في السرير يشعر بأنه لم يعد في مقدوره الغناء، يهمس في أذن الصدى أن يحفظ ذكراه. اللحظة محطّة. هو مسافر آخر فضّ دعوة رحلة مستعجلة، ترك حقائبه خلفه، كلماته الثائرة، واختار مقعداً مبللاً بالسكون، ينتظر الموعد كما تترقب الطيور إطلالة الخريف لترحل إلى ربيعٍ بعيد.

يمدّ ذراعه، يتلمس الألم الساكن في صدره، كريح تختبئ خلف شراع، يطمئنّ على المرض، يسامح جبنه، الديدان تكره الأحياء وتنتقم منهم عند مماتهم. لذيذ هو الموت عندما يكون تذكرة عودة إلى الوطن. المستقبل ترقّب حاضر تائه في صحراء، يحصي حبات الرمل، يكدّسها بحسب أحجامها.

تقفز نظراته في أرجاء الغرفة، تودع الغربة، باب الخزانة المشقوق جرح لن يلتئم في الصباح. الثياب على الرفوف، ستصبح يتيمة غداً، أي جسد غريب سيترك رائحته في ثناياها.

الانتظار نهر عجوز، يهرب من ملاقاة البحر.

يرخي شفتيه، تزحف أنفاسه خارج فمه، تبتعد قليلاً عن وجهه لتسقط على صدره كأوراق زهرة. القمر المعلّق على حافة الشبّاك كاللصوص يخشى الدخول، على رغم ذلك بين الفينة والأخرى، يمد رأسه ويصيخ السمع

يتقوس ظهر الرجل، يتراخى رأسه إلى الوراء، يتلوى جفناه، يداه كرتان من نار، صدره قفصٌ قضبانه مصنوعة من زجاج المرايا المكسّر. حفيف ثوب غير مرئي يبعد القمر إلى زاوية في السماء، تتسلل نجمة صغيرة، تختبئ في شعلة شمعة يحتفظ بها من زيارة إلى موطنه.

يجثو الزائر في محاذاة السرير، صامت مثل قعر بحر، ينظر إلى الرجل النائم من دون حياة، كضرير يسمع للمرة الأولى وصفاً للمغيب. متمهلاً يقف، يرفع الوشاح عن رأسه، ينحني فوق الرجل، يطبع على جبينه قبلة أولى لا تلبث أن تتحول أخيرة.
بصوت يترنح عذوبة يقول: "تصبح على... خلود". 


الأحد 04 نيسان 2010 - السنة 77 - العدد 24006
(الى جبران خليل جبران في ذكرى وفاته)

5 comments:

  1. أن يكتب هكذا موضوع عن جبران دليل قاطع أن الخلود ما زال يرافقه

    ReplyDelete
  2. لغتك هنا تشبه الدمى الروسية، تجبرنا على التوقف عند كل كلمة لنفتح سرا جديدا في معان و صور مكثفة تختصر في بضعة سطور شخصية جبران و رؤيته و معاناته...و الى النبي يجيء الموت و لا يأخذ سوى جسد لأن جبران الذي لطالما رأى في الموت تلك المساواةالتي نفتقدها في الارض،جبران الذي رأى في الانسان روحا قبل ان يلامس الجسد، قد أخجل الموت حين اقبل، و بقبلة طويلة تحررت روحه التي بقيت تبحث في الحياة عن فضاء و اثير و زبد و انهكها الغبار، فجبران لم ينتمي الى عالم البشر،كان روح تلتف بوشاح شفاف و الموت ما فعل بجبران سوى انه ازاح ذاك الوشاح و اعاد جبران الى العالم الذي بحث عنه في حياته، الى حديقة النبي من قبل ان يدنسها كل من جاء قبل و بعد و داس عشب و اغتال زهرة...تصبح على خلود يا جبران و شكرا لباسكال على مقال ساحر

    ReplyDelete
  3. شكرأ souha على مرورك الكريم.

    ReplyDelete
  4. شكراً Maeiva
    على وقتك.
    أتمنى أن أكون قد أسعدت من قرأ هذا النص بقدر ما أسعدني رأيك

    ReplyDelete
  5. رغم اني قرأت النص عدة مرات، سأعلق فقط على التشبيه المستعمل،
    الأسلوب رائع، وكأنني أشاهد لوحة فنية رائعة الجمال والرسام الذي رسم اللوحة يشرح لي بدقة كل تفصيل وماذا يقصد بهذا اللون وتلك النقطة...

    ReplyDelete

Share

Widgets